31-01-2010

الرئيسيةأخبار الوطناتصل بنا 

 

ذكرى ميلاد قائد عربي ونهج تحرري تقدمي وحدوي

أ.حسن عبد العظيم 

 

1 -

شاب من بلدة مغمورة في صعيد مصر ، ليس من العائلة المالكة الحاكمة ، ولا من العائلات الإقطاعية التي تتحكم بالريف المصري أرضا وبشرا ومشاركة في الحكم ، ولا من العائلات القابضة على الصناعة أو الشركات الكبيرة او المصارف المتحكمة في الاقتصاد والتجارة والمال ورقاب شعب يضم عشرات الملايين، غالبيتهم الساحقة من الفلاحين الأجراء والعمال الفقراء وعمال التراحيل وصغار الكسبة والكثير منهم حفاة ، وأشباه عراة محشورين في مساكن عارية يعيشون على (الفول المدمس) و (الكشري) .

ولد هذا الشاب في 15 كانون الثاني-يناير – 1918 من أسرة كبيرها موظف بريد تنقلت بين أسيوط في الصعيد والإسكندرية وأستطاع كغيره في تلك المرحلة ان يلتحق بالكلية الحربية وان تتجلى موهبته كضابط في دراسة وتدريس الإستراتيجية ، وان يفتح عينيه على الحال المزري لمصر أواخر عهد الملك المترف (فاروق).

لقد أدرك عبدالناصر دور الجيش في تكريس واقع الاستغلال والفساد والهيمنة الاستعمارية في مصر واهتراء الأحزاب السياسية وتحول حزب الوفد -وهو أهمها- إلى لعبة بيد القصر والمندوب البريطاني ، وتعمق إدراكه أثناء وجوده مع وحدة من الجيش محاصرة في الفالوجة في حرب فلسطين، وهي تعاني من حصار العدو ومن الفساد الداخلي التي كانت إحدى تجلياته صفقة الأسلحة الفاسدة ومخاطرها على الضباط والجنود واعتبر أن الجيش هو أداة السلطة في هذه الأوضاع المتردية ويقع عليه عبء تحرير الشعب والوطن على يد تنظيم الضباط الأحرار الذي أسسه مبكراً من ضباط يمثلون كل الاتجاهات الوطنية والقومية واليسارية والإسلامية واستطاع إحداث التغيير يوم 23 تموز /يوليو 1952.

-2-

انطلقت حركة عبدالناصر الثورية للتغيير من منظومة فكرية أولية لخصها في كتيب (فلسفة الثورة) الذي نشر عام 1953و في المبادئ الستة للثورة (القضاء على الاستعمار و الإقطاع والاستغلال، وبناء جيش وطني، وتنمية اقتصادية مستقلة وعدالة اجتماعية ، وديمقراطية سليمة) ، وقد عملت الحركة على تطبيق هذه المبادئ وتطويرها بالتجربة والممارسة حتى توصلت إلى الميثاق الوطني للقوى الشعبية في عام 1962 وقد تضمن منظومة فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تتضمن المبادئ الأساسية للتغيير الشامل على مختلف الأصعدة الوطنية والعربية والدولية .

ومع أنها لم تنطلق من نظرية كونية جاهزة (كالليبرالية) التي يأخذ بها الغرب وفرضها على البلدان التي تخضع للوجود الاستعماري وهيمنته ، أو الماركسية التي يأخذ بها الاتحاد السوفيتي ودول أوربا الشرقية التي سيطر عليها خلال الحرب العالمية الثانية ، غير أن تجربة الثورة الناصرية كانت منفتحة على الفكر الإنساني والتجارب الإنسانية بعيداً عن الجمود والتعصب والانغلاق من ناحية وعن النقل والتقليد والاتباعية من ناحية أخرى.

لقد أخذت من النظرية الماركسية والتجارب المستندة لها ، أسلوب التحليل الجدلي للتطور التاريخي ، ومفهوم الصراع الطبقي ورفض الاستغلال ، غير أنها رفضت دكتاتورية الطبقة العاملة (البروليتاريا) وحل الصراع الطبقي بالعنف ، وأخذت بتحالف قوى الشعب العاملة والحل السلمي للصراع الطبقي والاجتماعي عبر الحوار ، ورفضت الموقف الماركسي السلبي من القومية والدين ، فاعتبرت القومية تعبيراً عن الانتماء للأمة واعتبرت الدين والقيم الروحية ركيزة أساسية من ركائزها بعيدا عن التوظيف والاستغلال في العمل السياسي.

لقد حرص عبدالناصر على سلمية الثورة وإبعادها عن العنف والتصفيات الدموية ، فرفض قتل الملك فروق أو تصفية أسرته وواجه أعداء الثورة وخصومها وتخطيطهم لإسقاط الثورة بالحد الأدنى من المساءلة والاعتقال والعقاب ، وكان تصديق قرار إعدام سيد قطب من قبل مجلس قيادة الثورة بمخالفته ، ولم يعمد إلى اعتقال أو تصفية أي من أعضاء مجلس قيادة الثورة الذين اختلفوا معه أو عارضوه ، وأطلق سراح معارضيه من اليساريين ومكنهم من العمل في التثقيف والبناء التنظيمي في الاتحاد الاشتراكي والحزب الطليعي ومعاهد الشباب الاشتراكي ومنظمة الشباب.

-3-

في ضوء المبادئ الستة والنهج الذي سار عليه عبدالناصر ، أقال الملك وأستبدل النظام الملكي بنظام جمهوري واستعان بالمقاومة في مفاوضاته مع ممثل الحكومة البريطانية للضغط عليها للوصول إلى اتفاقية جلاء القوات البريطانية المتمركزة في منطقة قناة السويس ، لأن الجيش يتبع سلطة الدولة التي تراعي الاعتبارات السياسية الدولية وعمل على تحرير الفلاحين بإقرار قانون الإصلاح الزراعي لتحديد الملكية وتوزيع الأرض عليهم ومدهم بالقروض الزراعية بدون فائدة لتأمين زراعة أراضيهم وشراء الأبقار وتربيتها وخلايا النحل ، وتنمية الإنتاج الزراعي ، ثم التفت إلى بناء المصانع وتعزيز الصناعة بما في ذلك صناعة الحديد والصلب بالاستعانة بالاتحاد السوفيتي من خلال التمويل بقروض ميسرة بفائدة بسيطة تعادل خدمة الدين ، وبالخبرة السوفيتية.

لم تكتف قيادة عبدالناصر بالتنمية الزراعية والصناعية بل عملت على تدعيمها بمشروع بناء السد العالي في أسوان للاستفادة من فائض مياه نهر النيل في توسيع رقعة الأرض الزراعية لمواجهة تزايد السكان ، وفي توليد الكهرباء ، وحاولت تمويل المشروع من بريطانيا والولايات المتحدة لتأكيد سياسة الحياد الايجابي بين المعسكرين، غير ان تحالفهما مع الكيان الصهيوني الذي يعارض مشاريع التنمية في مصر والمنطقة جعلهما تلغيان التمويل بطريقة من شأنها التشكيك بسلامة الاقتصاد المصري ، فكان الرد الاستراتيجي المفاجئ لقيادة عبدالناصر - للحفاظ على الكرامة الوطنية - هو قرار تأميم قناة السويس وإعادتها إلى السيادة المصرية ذلك القرار التاريخي الذي ألهب المشاعر المصرية والعربية و إعجاب الشعوب المستضعفة في بلدان العالم الثالث ، وقد أعطى قرار تأميم القناة والصمود في مواجهة العدوان الثلاثي والدولي - ومن قبلة قرار كسر احتكار السلاح- مصر الثورة الدور الريادي على المستوى العربي والإقليمي والدولي.



-4-

ان بناء الدولة الوطنية الحديثة وعملية التحرر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي على الصعيد الوطني لم تشغل قيادة عبدالناصر عن الاهتمام بالدائرة العربية التي أشار إليها في فلسفة الثورة ، وقد وجد في ميثاق الجامعة العربية وما تضمنه حول "الدفاع العربي المشترك" مدخلا لتفعيل الأمن القومي ، وقد حقق ذلك بتوقيع اتفاقية مع سورية لتطبيق هذه الاتفاقية سرعان ما انضمت إليها الأردن والمملكة العربية السعودية في مواجهة سياسة الأحلاف الأجنبية التي قادتها حكومة نوري السعيد في العراق والحكومة التركية بمشاركة بريطانية ودعم أميركي إسرائيلي ، وتم تطبيق الاتفاقية فعلا بإرسال قوات مصرية لمساندة الجيش السوري في مواجهة الحصار التركي العراقي العسكري والسياسي ، وقد عزز هذا الموقف المبدئي شعبية عبدالناصر الواسعة التي حصل عليها بعد الانتصار السياسي الذي حققه بصموده في مواجهة العدوان الثلاثي في حرب السويس ، وحقق التفاعل الشعبي والرسمي بين سورية ومصر قيام وحدة 1958 بين الإقليمين.

-5-

في مواجهة انحياز إيران في ظل حكم الشاه الى التحالف مع الكيان الصهيوني ضد القضايا العربية وفي المقدمة القضية الفلسطينية ودعمه بإمدادات النفط ، مارست قيادة عبدالناصر مساندة حركة التحرر الوطني في ايران وفتح الباب أمام الآلاف من الشباب الإيراني بما فيهم الملتفين حول الإمام الخميني للدراسة والنشاط والتدريب في القاهرة لمعارضة ومناهضة حكم الشاه الاستبدادي ، الذي اتهم المعارضة بأنها ناصرية.

وفي مواجهة انحياز الحكومة التركية ومشاركتها في الأحلاف الأجنبية وتعاونها مع الكيان الصهيوني وقف عبدالناصر مع قيادة "مكاريوس" في قبرص ، لأنها معادية للاستعمار والصهيونية ، واستطاع عبدالناصر ان يجعل من مصر ثم من الجمهورية العربية المتحدة مقرا وملاذا لحركات التحرر الوطني في العالم الثالث ، وان يؤسس مع قادة العالم الثالث في آسيا وافريقيا ومنهم ( نهرو وسوكارنو وتيتو وسيكوتوري) منظمة دول الحياد الايجابي وعدم الانحياز ، لتحقيق التوازن في النظام الدولي بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي ، غير انه لم يغفل التعاون مع المعسكر الاشتراكي في مواجهة التحالف الاستراتيجي بين الكيان الصهيوني والمعسكر الغربي.

-6-

لقد حرص عبدالناصر على العلاقة مع الجماهير في مصر وعلى امتداد الوطن العربي والسهر على مصالحها واستمر في التواصل معها عبر خطابه في المناسبات الوطنية والقومية والعمل على كسر بيروقراطية السلطة وحواجزها وهي متجذرة في مصر ، واستمر في مصارحة الجماهير بما يجري من أحداث وتطورات ، واعتمد الدبلوماسية العلنية بدلا من دهاليز الدبلوماسية السرية وغموضها وكان لذلك أثره الواضح في تفاعل الجماهير الشعبية معه في معارك الثورة الناصرية والمخاطر التي تعرضت لها ، وفي الانتفاضة الشعبية يومي 9 و10 حزيران 1967 بعد استقالته ، وكذلك الملايين الزاحفة في مصر والساحات العربية في جنازته ، كما حرص عبدالناصر على الوقوف بحزم في مواجهة الفساد ومغريات السلطة واستغلالها وطبق ذلك على نفسه فلم يملك حتى منزلا ولا رصيدا في مصرف داخل مصر او خارجها ولا قطعة ارض ، وطبق ذلك على كل المحيطين به من أعضاء مجلس قيادة الثورة والوزراء والمسؤولين وحاسب بعضهم على بعض التجاوزات كإعفاء هدايا شخصية من رسوم الجمارك ، او السكن في شقة مصادرة من الحراسات ، وشدد على أولاده إلى حد حرمان احدهم من استخدام إحدى سيارات الرئاسة لإيصاله إلى الجامعة بحجة زحمة المواصلات او من الانتساب للاتحاد الاشتراكي لئلا يحصل على مواقع لا يستحقها بسبب القرابة واحتمالات النفاق.

-7-



لقد أمضى سنوات حكمه التي تقل عن عقدين من الزمن في العمل والسهر المتواصل على مصلحة الوطن والأمة وقضية فلسطين واضعا نصب عينيه الأهداف التي بلورها النضال القومي بدءاً من هدف "الحرية" التي تعني حرية الوطن والمواطن ، و"الاشتراكية" التي تعني تحقيق الكفاية والعدالة الاجتماعية ، وتوفير بيت سعيد لكل أسرة ، وهدف "الوحدة" وحدة الأمة العربية او الاتحاد على ان تكون طوعية نابعة من إرادة شعبية حرة.

لقد أسس نهج عبدالناصر لتجديد المشروع القومي النهضوي الحضاري ومع أن غيابه حصل قبل ما يزيد عن أربعة عقود ، وقد حاولت القوى المعادية لنهجه ان تمحو الانجازات الناصرية من أذهان الناس وإحلال نهج الردة ، والتجزئة والاستسلام والخنوع ، غير ان محاولاتها باءت بالفشل ، وها هي القوى الحية في الأمة من قومية ويسارية وإسلامية تتمسك بثوابت النهج التحرري التقدمي الوحدوي ، وتقاوم المشاريع الشرق أوسطية والمتوسطية للسيطرة على ثروات الأمة ومواردها ، والتصميم على مركزية القضية الفلسطينية وها هو رئيس فنزويلا "تشافيز" يعلن على الملاً في أحاديثه بأنه "ناصري" أي انه يسير على نهج عبدالناصر التحرري التقدمي الوحدوي الإنساني ، وها هو مناضل عالمي مثل "جورج غالاوي" يقارن باستمرار بين دور مصر في عهد عبدالناصر ودورها المنحسر في ظل النظام الحالي الذي ينسق مع العدوان الإسرائيلي والقوى الاستعمارية لمحاصرة الشعب الفلسطيني في غزة لإخماد جذوة المقاومة والصمود.

غير أن ثقتنا في أن شعب مصر الذي رفض التطبيع مع العدو الإسرائيلي وفاء لنهج عبدالناصر ، سيكون قادراً على التغيير وعلى إعادة مصر بثقلها التاريخي والحضاري إلى موقعها في قيادة الأمة وتحقيق أهدافها في الحرية والاشتراكية والوحدة.
*المحامي حسن عبد العظيم الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي في سورية

المصدر:المرصد السوري -  أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر تسبب ملاحقه قانونيه

الرئيسية

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن موقف المرصد السوري