01-03-2009

الرئيسيةأخبارأخبار الوطناتصل بنا 

المحكمة الدولية الخاصة بلبنان... أسبقية العدالة

طوني فرنسيس

 

سيتاح للعدالة، مع انطلاق المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، أن تبدأ معركتها الأولى الكبرى مع سياسات سائدة في الشرق الأوسط. فمنذ زمن كانت العدالة والسياسة على طرفي نقيض، ماتت في فلسطين أولاً لمصلحة قرار سياسي دولي، ثم ماتت في العالم العربي تحت شعار مواجهة ما جرى لفلسطين. لم يحاسب أحد من الصهاينة ومؤيدوهم على ما ارتكبوا في فلسطين ثم لم يحاسب أحد من قادة «انقلابات التحرير» على ما فعل بشعبه بحجة الانتقام للنكبة ثم للنكسة ثم لـ...
في عصر الاستقطاب العالمي بين معسكرين سوفياتي وأميركي كان البحث عن عدالة دولية مجردة صعباً. كل شيء كان يخضع لمقاييس الصراع بين القطبين: جرائم الإبادة والانقلابات العسكرية والتدخلات، اغتيال اليندي وقتل لومومبا وازهاق حياة شعوب بأكملها، كانت كلها توظف وتستثمر في اطار الصراع «الطبيعي» بين الأمبريالية والاشتراكية، وامتدادهما في حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية الخ... ولذلك كان القتل مباحاً ضمناً، ولا سبيل للخروج من المعمعة إلا قاتلاً أو مقتولاً، فإما تنتصر حركات التحرر وإما يسود النظام «الأمبريالي»، أما الضحايا الذين يسقطون قتلاً وتشريداً وتجويعاً فلا من يدافع عنهم، بل سيطوبون شهداء في هذا المعسكر ومخربين في المعسكر المقابل.
تلك المرحلة انتهت، ومهما بلغ الحنين لدى البعض تجاهها، لن يُنكر أن من ظلام الواقع الدولي ولدت اتجاهات جديدة للمحاسبة، قد يحسبها البعض انتصاراً للمعسكر الفائز، وهي قد تكون كذلك في مرحلة ما، لكنها في النهاية وبالتأكيد ستكون لمصلحة الانسانية جمعاء، ولمصلحة الشعوب المغلوبة على أمرها، خصوصاً في عصر العولمة وانفتاح الآفاق والحدود.
لم يطالب أحد بمحكمة دولية تحقق وتحاكم من اغتال سلفادور اليندي ونظامه البرلماني المنتخب، ولم يسأل أحد عن انقلابات العالم العربي والأثمان التي دفعتها نخب وأفراد وتيارات، ولم يستنفر أحد للمطالبة بمحاكمة ما جرى في فيتنام، وبديهي أن أحداً لم ينتبه الى الجانب القانوني في مأساة الشعب الفلسطيني، فكل ذلك حصل في خضم صراع المعسكرين، إلا أننا الآن بتنا نشهد ميلاً بدأ حذراً للجوء الى عدالة دولية تتخطى تجربة محكمة العدل الدولية التي انشأتها هيئة الأمم المتحدة وبقيت محكومة باستقطابات عصرها، فنشأت لهذه الغاية محاكم متخصصة، من محكمة الجنايات الدولية الى محاكم معنية بقضايا محددة، والأهم من ذلك أن هذ النوع من المحاكم بدأ يستعيد قضايا أعتقد البعض أنها دفنت مع انهيار النظام العالمي السابق، ومنها مثلاً مجازر كمبوديا التي ارتكبها نظام بول بوت في الفترة بين 1975 و 1979 من القرن الماضي.
لم يكن أحد يحلم في مطلع العام 1979 عندما قضى الجيش الفيتنامي على نظام بول بوت أنه سيأتي يوم يساق فيه مرتكبو الابادة من «الخمير الحمر» الى العدالة بقرار وإشراف دوليين، بالعكس كان الأحياء من أبناء الشعب الكمبودي ممن نجوا من المجزرة، يخشون التحدث عن موت أهلهم، وفي مدرسة «ليسيه ديكارت» في العاصمة بنوم بنه كان هناك من يجمع البقايا من عظام وجماجم وسط نقاش حول الابقاء عليها كشاهد أو الخلاص منها للنسيان، ومع ذلك، وبعد ثلاثين سنة انطلقت المحكمة الدولية - الكمبودية لمحاسبة المجرمين، واقتيد «مدير المجزرة» الى مسرح جريمته في «ليسيه ديكارت» ليعترف ويشهد ويندم... وليس من طريقة أخرى لطي الصفحة واراحة ضمائر الأحياء والأموات.
كانت المنظمات الأهلية الدولية وجمعيات حقوق الانسان وراء الضغط لقيام محكمة كمبوديا، وهي من وقف أيضاً وراء قيام محاكم رواندا وسيراليون وجزئياً يوغوسلافيا السابقة. وفي كل هذه الحالات لم تتوافر لدى الشعوب المعنية القدرة على المطالبة مباشرة بقيام محاكم دولية منصفة، بسبب انهيار الأنظمة القضائية المحلية أو فقدان الثقة بها، فحلّ ضغط الرأي العام الدولي محل الضغط المحلي لكشف الحقائق وإحلال العدالة، وفي حالة لبنان تلاقى الأمران، الضغط الشعبي اللبناني الهائل الذي انطلق بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والاستنكار الدولي الواسع للجريمة، ليفرضا بداية القرار 1595 الذي بموجبه تم انشاء لجنة تحقيق دولية، ثم القرار 1757 في 30 أيار (مايو) 2007 الصادر عن مجلس الأمن الدولي والذي ينص على انشاء المحكمة الخاصة بلبنان.
لقد استغرق قيام المحكمة وانطلاقها في العمل أقل من عامين، وربما يستغرق قيامها بمهماتها ثلاث الى خمس سنوات، وهذا ليس بالوقت الكثير قياساً الى تجارب ذكرنا بعضها والى آراء سبق أن وردت على لسان مسؤولين وشخصيات عامة في لبنان والعالم العربي، استخفت بداية بفكرة طلب قيام المحكمة ثم بقرار انشائها، وبعد صدور القرار توالت تصريحات عن «تسييسها»... وعندما اقترب موعد انطلاقها باتت المواقف تركز على لاجدواها فعلّها تسقط في غياهب النسيان!
مع ذلك، أصبحت محكمة لبنان الدولية أمراً واقعاً، ولها سلطة محاكمة الأشخاص المسؤولين عن ارتكاب جريمة 14 شباط (فبراير) 2005 التي أودت بحياة الحريري و22 مرافقاً ومواطناً، كذلك محاكمة آخرين في حال وجدت أن الاعتداءات الأخرى التي حصلت في لبنان بين تشرين الأول (اكتوبر) عندما جرت محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة وأي تاريخ آخر يقرره الأطراف بموافقة مجلس الأمن، مرتبطة ببعضها البعض.
ولن تنطلق المـــحكمة من فراغ، فالتقارير المتتالية للجنة التحقيق الدولية، بما فيها التقريران الأخيران للقاضي دانيال بلمار توصلت الى «إثباتات عن وجود شبكة من الأفراد» تعاونوا لتـــنفيذ اغتيال الحريري، وأن «هذه الشبكة الاجرامية أو ان أفراداً منها متورطون في قضايا أخرى تدخل ضمن نطاق مهمة اللجنة»، وعنــدما يتم الحديث عن «اثباتات» فهذا يعني أن التحقيق تقدم كثيراً، وأن الأشهر القليلة المقبلة ستحمل قرارات اتهامية واضحة بالأسماء والوقائع لن يكون متاحاً بعدها التــهرب من تحمل المـــسؤوليات.
وليس مهماً عندها، الحديث عن سنوات، فجوهر الموضوع أن العدالة ستشق طريقها، والمهم أن تشقها بعيداً من السياسة، فالمترتبات السياسية تأتي في نتيجة المحاكمة والأحكام وليس قبلها، أما إذا سبقت ذلك فستكون العدالة في ورطة. وفي شرق أوسطنا الذي يحتاج الى الكثير من العدالة والقليل من السياسة ستكون العدالة ضداً للسياسة وممهداً لاعادة تصويبها بعد أن فشلت السياسة عموماً في صنع عدالة أو في صنع سلطات قضائية تضمن الحقوق وتحمي السياسة من المتسلطين.
السنوات مهمة، بمعنى الاسراع في كشف الحقائق واصدار الأحكام، لكن الأساس هو في أن «إصبع» العالم سيبقى مرفوعاً ابتداء من الأول من آذار (مارس) في وجه من ارتكب أو يفكر بارتكاب الجرائم في لبنان (أو في غيره)، فالمجرم سيعرف أن عداً عكسياً قد بدأ وهو كالقدر لا مجال لرده، وعلى الأقل سيتذكر أنه في نهاية العام الماضي (قبل نحو شهرين)، كاد العالم ينسى مجازر رواندا، إلا أن المحكمة الدولية الخاصة بالمجازر المرتكبة في هذه الدولة الافريقية، أصدرت، وبعد ست سنوات من بدء المحاكمات حكمها بالسجن مدى الحياة للعقل المدبر لجريمة الابادة العرقية عام 1994، ثيونيست باغوسورا الملقب بـ «كولونيل القيامة»، لأنه وضع بمشاركة اثنين من حلفائه المخطط الأولي للمذابح التي أسفرت عن مقتل 800 ألف شخص خلال مئة يوم.


* صحافي لبناني من أسرة «الحياة».

المصدر:الحياة  السعودية  - أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر تسبب ملاحقه قانونيه

الرئيسية

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن موقف المرصد السوريوإنما تعبر عن وجهة نظر أصحابها