أخبار الوطناتصل بنا الرئيسية

10/01/2011

 

أذن من طين .. الأطباء.. بدي شوفك كل يوم يا مريضي

 

 

للأطباء حظ أنَّ الشمس تسطع فوق رؤوسهم، والتراب يدفن أخطاءهم»، والطب اليوم تحوَّل إلى مزاد علني يُمارس نهاراً وجهاراً، والشاطر مَن يستطيع أن يكسب زبائن أكثر.
ولأنَّ الخطأ في التعميم، فإننا لا نقصد من قريب أو من بعيد أطباء الروح قبل الجسد؛ أي الأطباء الذين لا تعنيهم الأمور المادية ولا يعيرونها الاهتمام، وهؤلاء على ندرتهم وعلى الرغم من أنهم شبه منقرضين، لكنهم موجودون، لكنك تحتاج إلى مجهر كبير لتجدهم.

يقول المثل الشعبي: «نكون بالطب نصير بالبيطرة»، وهذا حال عدد كبير من الأطباء، ممن يوجد تبرير جاهز لأخطائهم، لكن هذه القضية ليست على قدر كبير من الأهمية، لأنَّ الخطأ وارد، لكن الأمر غير المشروع وغير الأخلاقي أن يتحوَّل الطب إلى تجارة مقياسها الربح والخسارة، ويصبح الطبيب صاحب سوبّر ماركت، والمرضى في نظره زبائن ويمارس فهلوية التجّار عليهم.
على العموم، لو كان بيننا على قيد الحياة اليوم أبو الطب (أبو قراط)، وابن سينا (الشيخ الرئيس وهو أول مَن أعطى الدواء عن طريق المحقن)، وابن النفيس (مكتشف الدورة الدموية الصغرى)، والزهراوي وو.. لطلبوا استعجال موتهم وهم يشهدون على القرار القاضي برفع سقف أجور معاينات الأطباء في سورية.



المال ثمّ المال أولاً
مصادر خاصة في وزارة الصحة، أكَّدت أنَّ نسبة مساهمة القطاع الخاص الطبي من القطاع العام في مجال الرعاية وتقديم الخدمات الصحية، تغطي 55 إلى 60 %، ما يعني أهمية مساهمة هذا القطاع من حيث الكفاءة والحجم، إلى جانب القطاع العام، في تأمين الرعاية الصحية، بغضِّ النظر عن فروقات الإنفاق، على أنَّ عبارة «بغضّ النظر» هذه كانت قبل أن يتحوَّل القطاع الخاص إلى صرّاف لعدِّ المال وحصده من المريض، دون رعاية تتطلَّب هذا الحجم من الانفاق، فكل المعايير الإنسانية والمهنية في القطاع الخاص تماهت لمصلحة معايير المال أولاً، ومن بعده كلّ شيء قابل للتعامل معه. وبدلاً من الدخول في متاهات وصف تفاصيل إشكاليات هذا القطاع، يمكننا الاستعاضة عنه ببعض القصص التي تعبِّر عن الفكرة المراد الحديث عنها.. والبداية من الرجل المسنّ (إبراهيم) القاطن في كفر بطنا، الذي قرَّر أولاده، تكريماً له، إدخاله إلى مستشفى خاص بعد أن أصيب بنوبة دماغية أدَّت إلى وفاته، فأتت الفاتورة 120 ألف ليرة سورية، علماً بأنَّ وجوده في المستشفى كما الإقامة في أوتيل؛ إذ لم يقدِّم المستشفى أيَّ مبادرة لإنقاذ حياته، وفي كلّ فينة كان المطلوب من ذوي المريض البحث عن منفسة، وتارة أخرى البحث عن إبرة وخلافها.. ومن ريف دمشق أيضاً، كانت امرأة طاعنة في السن، وقد اقتربت منيّتها، ومع ذلك كان قرار أبنائها تأدية واجبهم حيالها حتى آخر لحظة، فقرَّروا تبيان حالها في مستشفى خاص، على أنَّ المرأة المسنّة لم تمنح أطباء المستشفى الوقت لإجراء أية فحوصات طبية لها، فقد فارقت الحياة مخلِّفة فاتورة قيمتها 30 ألف ليرة سورية.. وأما لماذا، فلم يستطع أبناؤها فهم الأسباب؟!.
ومؤخراً، وفي حالة أخرى، تقدَّم رجل بشكوى مفادها أنَّ ابنته، وهي في العقد الثالث، توفِّيت نتيجة خطأ طبي في مستشفى خاص، ومع ذلك ترتَّب عليه فاتورة طبابة.. وعليه فإنَّ قصص مرضانا مع المستشفيات الخاصة كالحبل على الجرار.. فيومياً هناك مَن يئنُّ مِن مرضه وألمه الجسدي من جهة، ومِن وجع ارتفاع تكاليف مستشفياتنا الخاصة من جهة ثانية.
ما تقدَّم لا يشكِّل استهانة بحجم خبرة ومتانة الكوادر الطبية لهذا القطاع، أو بأهمية تكنولوجياته الطبية، إنما ما تقدَّم يشكِّل نقطة إشكالية حيال غياب الضمير في هذا القطاع الذي غدا كأيِّ مهنة أو كار، يضع العاملون والمستثمرون فيه نصب أعينهم المال، والمال أولاً، ومن ثم غياب المتابعة والإشراف عليه من قبل الجهات الرقابية التي تنتظر الشكوى لكي تصل إلى طاولتها، ومن ثم تقوم بعملها.
ويمكننا أن نفهم أكثر عقلية وآلية تفكير المستثمرين في هذا المجال، من خلال تصريح أحد أصحاب المستشفيات الخاصة عندما قال: «ندفع المليارات لكي نربح، وبكل بساطة للمريض خياره؛ إما القطاع الخاص والمقابل المال، وإما الانتظار عند أبواب القطاع العام للمعاينة والاستطباب، هذا إن بقي من العمر ما يكفي لهذا الانتظار»..
إذاً، «لايفنى الديب ولا يموت الغنم»، معادلة غير موجودة في القطاع الطبي الخاص، فالمال المبالغ فيه هو مقابل الرعاية، بغضِّ النظر عن نتائجها.. وفي المقابل، رحمة القطاع الطبي العام في رمزية أجوره، ولكن يصحُّ عليه القول أحياناً «الخارج مولود»..



مراسم استقبال مريض
بناء كبير يرى الناظر إليه أناساً يتجمَّعون حوله وعلى أبوابه، أناساً يُرى على وجوههم الوجع واليأس، يدخل «واحدنا» إلى هذا المبنى الكبير ليرى مَن يرتدون الأبيض يتحرَّكون داخله وكأنهم في خليّة نحل.. وعلى سيرة النحل، يتبادر إلى أذهاننا اللون الأصفر الذي يصبغ جزءاً ليس بقليل داخل المبنى؛ اصفرار على الجدران لقدمها، واصفرار على الأرض لتجمُّع الأوساخ عليها، واصفرار على وجوه أكثر الدكاترة والممرضين.. المريض الآن دخل المبنى، ليُفاجأ بطوابير من أمثاله؛ أي «زملاء في الوجع والهم»، ينتظرون لساعات لعلّ ساعة الرحمة تأتيهم عندما يقابلون الطبيب.. المهم، بعد انتظار لساعات، يصل الدور إلى مريضنا ليرى الطبيب، يدخل المريض وعلى وجهه علائم الرعب والتردُّد ممزوجة بوجعه الجسدي. وقبل أن يتفوَّه المريض بكلمة، يقابله الدكتور بعبسة ونفخة وملل بالقول: «العمى كلّ البلد مرضانة.. أف شبك؟». فيجيب المريض بما يشتكيه من وجع، ليعود الطبيب ويقول: «وضعك صعب». ويستطرد قوله بعبارة: «بهل المستشفى مو خرج، سأعطيك عنوان عيادتي تعال وعندها سنرى».. هنا يبلع المريض ريقه من زيادة الرعبة، فيحاول أن يسأل ويستفهم من الطبيب: «ماذا بي، من ما أشكو؟». فيجيبه الدكتور: «أنت مريض، ولا وقت للتشخيص الدقيق، شو ما عندي غيرك!.. يلي بعدو».. وبحركة لا إرادية، ترتفع عيون المريض إلى سقف الغرفة، في إشارة إلى طلب السماء، ويأتي يوم مراجعة المريض للطبيب في عيادته، يدخل فتستقبله ممرضة بكامل أناقتها ولباقتها: «تفضَّل، دقائق وتقابل الطبيب». ثم يدخل مريضنا إلى المعاينة والفحص، حيث يستقبله الطبيب ذاته الذي رآه في المستشفى معنّفاً ومتأفّفاً، يراه ويُفاجأ لأنَّ له الوجه ذاته، لكن بملامح أخرى؛ ملامح تتَّسم بالرأفة والرحمة والكياسة: «أهلا وسهلا سلامة قلبك.. أنا ولا إنت، تفضَّل».. تتمُّ معاينة المريض، ويتشخَّص المرض، وتُكتب «راشيتة» الأدوية، ثم يُودَّع المريض بمثل ما استُقبِل به من حفاوة، لكن مع عبارة: «شوف الآنسة قبل ما تطلع، وألف سلامة عليك».. يتَّجه المريض إلى الممرضة، ليُفاجأ بأنه سيدفع مبلغاً ليس بقليل لقاء المعاينة.. هذا غيض من فيض لحال بعض الأطباء في المستشفيات العامة، والذين لديهم عيادات خاصة، لذلك هل من الممكن أن نعود إلى أيام «الحلاق الذي يعمل في بالطب العربي» عوضاً عن المستشفيات؟ كل شيء ممكن.. «وإن شاء الله ما بتحتاجوا مستشفيات».



تحاليل.. ما في الجيوب
«مازال ما تشكو منه مجهولاً، وليس بالإمكان تشخيصه بدقة إلا بعد إجراء التحاليل المطلوبة، ومن الضروري إجراؤها في أسرع وقت ممكن».. هذا ما قاله الطبيب، وفعلاً توجَّه المريض إلى أحد مخابر القطاع العام، على اعتبار أنها أكثر رأفة بحال جيبه وذات جودة مقبولة، لكنه لم يتوقَّع ما ينتظره هناك، فما إن دخل حتى وجد ستة طوابير وصلت نهايتها إلى الباب الخارجي للمخبر، في حين لم تستطع عينه رصد بدايتها.. ولكن، ما العمل، فليس لديه حلّ سوى الانتظار، لأنَّ المثل يقول: «الصبر مفتاح الفرج»..
مضت الساعة الأولى وعقلُ مريضنا يضرب أخماساً بأسداس، فلا يدري حتى الآن حقيقة مرضه، ولم يصل بعد إلى الإبرة التي ستسحب دمه أملاً بأن تشفي غليله.. وها هي الساعة الثانية تشرف على الانتهاء، ومازال ينتظر الفرج، والأصوات من حوله تتعالى، فهذا الذي يتحدَّث مع المريض الذي يقف أمامه شاكياً له ضيق حاله وقلّة حيلته التي أجبرته على الانتظار خمس ساعات متواصلة، وذاك الذي بدأت أعراض النوبة القلبية تظهر عليه ومع ذلك عليه أن يبقى واقفاً في صفّه منتظراً دوره، على اعتبار أنَّ كلَّ شيء يسير تبعاً للنظام، ولا مكان «للدفشات»..
وها قد دخلنا في الساعة الثالثة، ولم يتمكَّن صاحبنا بعد من رؤية باب غرفة التحاليل، فالمرضى على مدِّ النظر والانتظار سيّد الموقف، لكن يبدو أنَّ الساعة حانت للتخلِّي عن مجانية المخبر العام، وما مِن سبيل سوى التوُّجه إلى مخبر خاص.
وبالفعل، قرَّر مريضنا أن يضحِّي بما بقي في جيبه هذا الشهر واللجوء إلى مخبر خاص، لأنَّ الصحة غالية وتستحقُّ أن يدفع من أجلها «حيلته وفتيلته»، وها هو على باب المخبر الخاص، لكن أين الطوابير وأين الناس المصطفّون والمتأفِّفون من طول الانتظار؟.. المشهد كلّه تغيَّر؛ ملائكة الرحمة مقبلون من كلِّ جانب، يسألونه كيف يمكنهم مساعدته، ولم تمضِ سوى خمس دقائق حتى وجد نفسه في منتصف غرفة التحاليل وهو لا يصدِّق ما يجري.. كيف وصل إلى هنا بهذه السرعة، ما سرّ هذا الاهتمام الزائد الذي لم يعتد عليه من قبل؟.. وللحظة، وعن طيبة قلب، اعتقد أنَّ كلَّ ذلك يحدث من أجل سواد عيونه، ونسي أنَّ فاتورة طويلة تنتظره، يحملها إليه ليريحه ملاك فقد صفة «رحيم» الآن متحوِّلا إلى «رجيم».




غدر الزمان

يرفع قدميه قليلاً.. ينظر بيأس إلى الطابور الطويل الذي يقف فيه أشخاص يحملون أمراضاً مختلفة..
ينتظرون لساعات طويلة، يتبادلون خلالها الكثير من الأحاديث والأمراض في آن معاً.. إلى أن تأتي ساعة الفرج ويصل الدور إلى هذا المسكين ليقف أمامه طبيب استبدل الابتسامة التي يزرعها على وجهه في عيادته الخاصة، بتكشيرة تزيد وجع هذا المريض وهمّه.. «مِن ماذا تشكي؟»، يسأله الطبيب.. وقبل أن ينهي المريض حديثه، يكون الطبيب قد كتب وصفته العجيبة، التي غالباً ما تضطرُّ مريضنا إلى تكرار الزيارة مراراً، فالوصفة «على الماشي» وصحة المريض «هو وحظّه»، فمِن الممكن أن تصيب تلك الوصفة، ومن الممكن أن تخيب..
كما مِن الممكن أن يقرِّر الطبيب في الحالات المستعصية إجراء عمل جراحي لمريض ما، إلا أنه على هذا المريض دفع ضريبة اللجوء إلى المستشفيات العامة بتحمّل الوجع وتفاقم المرض لفترة طويلة قد تتجاوز العام، فمَن يقصد تلك المستشفيات بالآلاف، وحالتهم المادية المتعبة تجعلهم يفضِّلون الانتظار مئات الأيام على دفع مئات الآلاف لإجراء عملية جراحية في مستشفى خاص. ما يعني أنَّ كلَّ يوم انتظار للحصول على دور في المستشفى الحكومي يوفِّر على المريض ألف ليرة، فمثلاً العملية التي تتكلَّف 300 ألف ليرة في المستشفى الخاص، ستحتاج إلى أن ينتظر المريض 300 يوم؛ أي قرابة العام، أو ربما أكثر، هذا إذا بقي هذا المسكين على قيد الحياة!!. كما يفضِّل هؤلاء انتظار الساعات للخضوع إلى معاينة طبية في المستشفى الحكومي بدلاً من دفع الآلاف لمعاينة الطبيب في عيادته الخاصة. والواقع الاقتصادي المرّ الذي تعيشه النسبة الكبيرة من المواطنين، لا يحتمل مزيداً من المصاريف والأعباء المادية، خاصة في مجال الصحة.. فالعيادات أو المستشفيات الخاصة مثل المنشار؛ تأكل في الذهاب والإياب، أما المستشفيات الحكومية «فلا للسيف ولا للضيف ولا لغدر الزمان»..

المصدر:بلدنا  السورية  - أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر تسبب ملاحقه قانونيه

الرئيسية

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن موقف المرصد السوري