أخبار الوطناتصل بنا الرئيسية

26/07/2010

 

300 ألف سوري خذلهم نهر الخابور.. ولم تسعفهم الحلول

 

 

لطالما كان البشر يجاوِرن الأنهار. لكن نهر الخابور العظيم، بابتعاده قليلاً عن الأراضي، أصبح بمثابة عنوان للّعنة التي حلَّت بأهل الجزيرة السورية. ثلاث محافظات، تشكِّل 41 % من مساحة سورية، تقع اليوم تحت سطوة الجفاف. هناك في الشمال الشرقي، تقوم المحافظات الثلاث التي تشكِّل ما يعرف بالجزيرة. دير الزور والرقة والحسكة..
ثلاث محافظات يكاد يقوم عليها الاقتصاد السوري، حيث يبلغ إنتاج القطن فيها 69 %، والقمح 70 %، والشوندر السكري 33 %، من مجمل الإنتاج الوطني. ومع ذلك، هجر الفراتيون أرضهم، على أمل رجعة لا يعرفون وقتها أبداً. قديماً، كانوا يغنُّون للنهر. الخابور الذي جفَّ تطارده لعنة الأغنيات. تقول الأغنية: «من فوق جسر الخابور.. سلم عليّ بيدو»، لماذا يغنُّون الآن والنهر قد جفَّ وكلّ الأحلام تتبخَّر؟. وهل إذا جفَّ النهر يموت البشر في الوقت الذي يمكن فيه اختراع الحلول (لابدَّ من حلول)؟ أم أنَّ الحلول لن تأتي إلا في وقت متأخِّر. فيكون كلُّ شيء قد انقضى (لن نعجز إذا أردنا إيجاد الحلول).
هل سيأتي اليوم الذي لا نجد فيه كلَّ تلك المساحات الشاسعة المزروعة، التي تبلغ 41 % من إجمالي المساحات المزروعة في سورية. وماذا عن البشر؟؛ سكان المكان الذين لم يعد شملهم يلتئم.. «النشامى» (بلغة البدو)، تركوا أرضهم، ونزحوا إلى دمشق (دائماً كانت دمشق الأمل)، ثم أكمل كثيرون طريقهم إلى أقصى الجنوب، وصولاً إلى درعا، والبعض نزح إلى طرطوس وحلب. أما هنا، على تخوم دمشق وأريافها، في الأراضي البور، فقد أقام الفراتيون خيامهم على أمل فرصة واحدة وأخيرة تبقيهم أعزّاء موفوري الكرامة، فما الذي يحصل في تلك الخيام؟، وما الذي يجري في تلك الحياة الجديدة والمنقوصة في الوقت نفسه.

¶ إلى هناك.. «زوووووم آوت»
نصف ساعة بسيارة تسير بسرعة 60 كم من دمشق إلى أحد مخيمات نازحي الجزيرة السورية. نصف ساعة فقط، كفيلة بأن تضعنا في قلب المشهد. هناك، على تخوم سعسع باتجاه مدينة القنيطرة، تدخل السيارة إلى المخيم الهادئ.. يبدو الناس وكأنهم يعيشون في داخل السأم.. المكان يوحي بالضجر اللانهائي. الشمس الحارقة منذ الصباح، كأنها تقوم بتدمير الأعصاب. يتفاعل بعض الموجودين في المخيم مع فكرة وجودنا الباهت. يرحِّبون بنا بعد اقتحامنا عزلتهم اللانهائية. يحاول الأطفال أن ينأوا بأنفسهم بعيداً عنا. علائم من الحزن تبدو على وجوههم، فقسم كبير من الأطفال هجروا المخيم مع ذويهم إلى مناطق أخرى. يا للخسارة!!، لم يعد هناك رفاق يكفون للعب. وما الذي سيستفيدون منه إن كنَّا جلبنا لهم الكثير من قصص الأطفال. عيونهم تقول: نحن نفكِّر في الخبز.
كلُّ شيء صامت؛ الخيام صامتة.. ثمة بشر يعيشون تحت وطأة الانتظار (انتظار ماذا يا ترى؟).


¶ في المكان.. «زوووووم إن»
يختبئ الأطفال داخل إحدى الخيام. نقترب منهم قليلاً. ثيابهم المتَّسخة، ووجوههم الكالحة، تثير الشجن. التراب لعبتهم اللانهائية، والخجل والانكسار الذي يبدو في عيونهم، يبعث على ألم شديد.. ماذا أفطر الأطفال يا ترى؟ يجيبون: «الخبز والشاي».. نعم، الخبز والشاي هو ما يشكِّل الوجبة الرئيسة لهؤلاء الذين لم يعد آباؤهم يمتلكون إلا تلك الأرض التي بلا مياه. هناك في الشمال السوري، علائم سوء التغذية ظاهرة للعيان.. «الإينيميا» تضرب في البشر هناك، دون أن ينتبه أحد (حتى هذه اللحظة لم يتحرَّك أحد على هذا الصعيد).
كانوا جميعاً مزارعين ومربِّي مواشٍ، لكن الأرض يبست وصارت تكلفة إطعام المواشي تفوق قيمتها، فاضطرُّوا إلى بيعها، وهم الآن معدمون في هذا المجهول. أما الذين دخلوا في هذا المجهول، فهم كثر، حسبما يفيد تقرير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، الذي جاء نتيجة للتعاون مع وزارة الزراعة، حيث قامت الوزارة مع «الفاو» بإجراء مسح شامل لواقع الجفاف، نفَّذه متخصِّصون من عدة منظمات دولية، بين 17 حزيران و13 تموز 2009، وأشار إلى أنَّ «38658 مربياً صغيراً للحيوانات، تأثَّروا بالجفاف في المنطقة الشرقية (الحسكة- دير الزور- الرقة)، والمنطقة الوسطى الشرقية (حماة- حمص)، والجنوبية (ريف دمشق)- وهم الأكثر حساسية، باعتبار أنّهم فقدوا جميع أغنامهم، ومن بين هؤلاء هناك 32 % في حماة، و30 % في الرقة، و28 % في الحسكة، و6 % في حمص، و0.3 % في دير الزور, فإنَّ المزارعين الصغار في منطقة الاستقرار الرابعة (وبعضهم في المنطقة الثالثة في الحسكة)، والمربِّين في المنطقة الخامسة (وبعضهم في المنطقة الرابعة)، يُعدَّان المجموعتين الأكثر بؤساً وحساسية من بين السكان الريفيين المصابين بالجفاف، حيث يعيشون في الأوضاع الأشدّ صعوبة، وتحت خط الفقر. هذه الصعوبة المستمرّة، أجبرتهم على الهجرة خارج قراهم وأماكن استيطانهم، إلى مناطق أخرى في القطر، أو إلى الخارج، بحثاً عن عمل يسدّ الحاجات الغذائية الأساسية لعائلاتهم، هذه الهجرة من الريف إلى المدينة، أو شبه المدينة، سبّبت مشكلة جدِّية لهذه المدن التي تعاني أصلاً من الاكتظاظ، وكذلك سبّبت مشكلة لسكانها».


¶ خيمة الضيق.. والموت الممتد
ما هي إلا دقائق قليلة، حتى يستنفر سكان المخيّم بأكمله لوجودنا، فيتحلَّقون حولنا، رجالاً ونساءً.. ندخل إحدى الخيام، يصنع النازحون خيامهم من البطانيات والشوادر الخفيفة وبعض جلود الماعز، حيث يبلغ طول الخيمة الواحدة بين 5-6 أمتار، وبعرض حوالي 3 أمتار، بمتوسط مساحة يبلغ تقديرياً حوالي 16 متراً مربعاً. تنتصب الخيام على أعمدة من الخشب والحديد القابلة للسقوط في أيِّ لحظة بفعل الرياح، ما يشكِّل خطراً على سلامة القاطنين فيها. تقسم الخيمة إلى قسمين؛ أحدهما للرجال والآخر للنساء، وبعض الخيام تضمُّ قسماً آخر للاستقبالات. أما أثناء الليل، فيأخذ التقسيم شكلاً آخر؛ حيث تصبح هناك خيام للرجال، وأخرى للنساء، والمسافات بين الخيام متباعدة.. في هذا المخيم، على عكس المخيمات الأخرى التي نُصِب فيها عدد أكبر من الخيام، ما سبَّب الكثير من الحوادث التي أودت بحياة بعض المواطنين، كما حصل في الحريق الذي قضى على حوالي 23 خيمة في تجمُّع أوتايا قرب دوما، حيث راح ضحيته أيضاً طفلة تحوَّل جسدها الطري إلى رماد بطريقة مأساوية. وكما حصل أيضاً في تجمع خربة الورد قرب السيدة زينب عندما انهارت إحدى الخيام لتنهار معها حياة أربعة أطفال بعمر الزهور التي لم يصار لهم أن يشمُّوها.
«خيمة عن خيمة تختلف»، يقول غسان كنفاني، وكان يقصد خيمة اللاجئ وخيمة الفدائي. ولكن، لايوجد خيمة تختلف عن أخرى في مخيمات البؤس هذه؛ فالتراب الذي تحمله الريح يدخل بلا استئذان، والماء يتمُّ شراؤه من مصادر مجهولة وغير مضمونة، ولا كهرباء أبداً. أما خطوط التوتر العالي التي تمرُّ من فوق المخيم، فكفيلة بوضع أيِّ إنسان في أجواء من الرعب، ولا حياة في هذه الأماكن!! ربما كانت الحياة حقاً في مكان آخر، بحسب كونديرا!!
في مخيم سعسع، لا يدفع النازحون هناك آجراً مقابل الأرض التي أقاموا عليها خيامهم، على عكس ما يحصل في مناطق أخرى، كما في قرية كناكر؛ حيث يتقاضى أصحاب الأرض مبلغ 100 ليرة شهرياً من كلِّ صاحب خيمة، وفي بعض المناطق يصل المبلغ حتى 300 ليرة، ما يشكِّل عبئاً إضافياً على الأسر.




300 ألف عدد سكان الجزيرة السورية الذين نزحوا عن أراضيهم
100 ليرة متوسط دخل الأسرة الواحدة من نازحي الجزيرة لليوم الواحد.



¶ العجوز الطيب.. والشاب.. والشاويش
أحاول استجماع شيء من ثقافتي البدوية للتفاعل مع رجل ستيني. الرجال يبدون متحفِّظين بشدة، ويحاولون دائماً أن لا ينطقوا لأحد تلك الجمل التي تحمل أسبابَ ما صارت إليه حالتهم. ما إن يفتح فمه حتى يقول: «الحمد لله»، ثم يصمت.. أسأله عن أصوله فأقول: «مِن أيّ الأعمام؟؟» فترتسم على وجهه ابتسامة، ويذكر لي اسم القبيلة العربية التي ينتسب إليها. ولكن ابتسامته تنمُّ عن شخص عرف تماماً أنَّ هذا السؤال البدوي الخالص هو المفتاح الذي أستخدمه ليتحدَّث إليَّ. يروي أبو محمد، القادم من إحدى قرى محافظة الحسكة، شجونه: «كنت أزرع 100 دونم بالقمح والشعير، وكنت أمتلك 150 رأساً من الغنم. لم يعد هناك ماء. وعلى الرغم من كوني أملك بئراً ارتوازية، إلا أنَّ تكلفة المازوت اللازم للمضخة صارت تفوق ثمن المحصول. فعندما كان سعر ليتر المازوت المدعوم 7 ليرات سورية، كان كلُّ شيء بخير. أما وقد أصبح سعر الليتر 20 ليرة سورية، فهذا ما لم أستطع احتماله. أما الأغنام، فاضطررت إلى بيعها قبل حوالي ثلاث سنوات، عندما أصبح ثمن الواحدة منها يعادل ثمن العلف الذي تأكله في شهر واحد»..
(م. بديوي) رجل ثلاثيني، يمسك طفلاً بكلِّ يد، يقول: «نحن نعيش من قلة الموت. زوجتي تعمل، فيما أجالس الأطفال، ونتبادل الأدوار.. نحصل من عملنا في حقول الآخرين وفي العتالة على حوالي 200 ليرة سورية. ندفع منها 25 ليرة للشخص الذي يقوم بتأمين العمل (بمثابة متعهّد يسمّونه شاويش) فتبقى 175 ليرة سورية لا تكفي إلا لثمن الخبز». هذه الأحوال المأساوية يؤكِّدها تقرير «الفاو» ووزارة الزراعة، حيث يقول التقرير:» تأثّر مستوى المعيشة الضعيف للناس المصابين بالجفاف بشكل سلبي، بنقصِ إنتاج القمح والشعير في الأراضي البعلية، وكذلك بالنقص الجوهري في الدخل من تربية الحيوانات، حيث أثّرت سنتان (أو ثلاث سنوات في بعض المناطق) من الجفاف المدمّر، بشكل سلبي، في مصادر الدخل للمزارعين ومربّي الحيوانات والمجتمعات الريفية المصابة بالجفاف، وبالتالي في دخولهم، وأدّى هذا إلى زيادة الفقر؛ ما أجبرهم على المعيشة تحت خطّ الفقر الشديد (أي أقلّ من دولار في اليوم)، وفي ظروف شديدة الحساسية».

هذا ما ينتظره الأطفال
هل كان على الإله «بعل» أن يصحو من سباته، فالخصب غادر الربوع إلى غير رجعة.. هكذا يتأبَّط الأطفال أرغفة الخبز اليابس، كما لو كان الخبز تعويذة تحميهم من تقلبات مزاج «بعل». لماذا لا يبعث «بعل» بالأمطار؟ الكلُّ يسألون: لماذا لا يبعث «بعل» بالأمطار؟. حسناً، وماذا لو لم يغيِّر «بعل» رأيه. هل نترك قمحنا، وهو أحد المحصولات الاستراتيجية، في مهبِّ الريح؟. وماذا عن أطفالنا الذين ينتظرون قليلاً من الطعام، ومدرسة، وكتاباً، أو حتى تلفازاً يجمعهم في مكان نظيف، ولعلهم كانوا سيعُّزون النفس بابتسامة لا يجدونها على وجوه أمهاتهم، اللواتي يعملن في أسوأ الشروط الإنسانية، وخصوصاً الحوامل والمرضعات اللواتي لا يلقين أيَّ شكل من أشكال الرعاية الصحية. أما العام الدراسي الذي أوشك على القدوم، فتتهدَّده كارثة كبرى إذا ما ظلَّ هؤلاء بعيدين عن الأماكن التي يقطنون فيها. حيث تبشِّر الأوضاع القائمة بعدد كبير من المتسرِّبين من التعليم..




261353 هكتاراً مروياً المساحة المزروعة بالقمح في محافظة الحسكة خلال الموسم الزراعي الحالي
391197 هكتار اً المساحة المزروعة بعلاً بالقمح في محافظة الحسكة خلال الموسم الزراعي الحالي

60 % نسبة تراجع إنتاج القمح في الجزيرة السورية عما هو مقرَّر بحسب الخطط والإحصاءات
19.2 % تبلغ نسبة التشغيل في الزراعة من إجمالي القوى العاملة في القطر

المصدر:صحيفة بلدنا السورية  - أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر تسبب ملاحقه قانونيه

الرئيسية

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن موقف المرصد السوري