تطرقنا في
عدد سابق إلى مسابقة وزارة التربية التي
أعلنت عنها في أواخر العام الماضي، وسلطت
الضوء على النتائج التي ستترتب على أحد
شروط التوظيف في تلك المسابقة، والقاضي
بتعيين الناجحين والناجحات في المسابقة في
محافظات غير محافظاتهم لمدة خمسة أعوام
كاملة، مركّزة على حجم المشاق التي
سيتكبدها الموظفون الجدد والظروف الصعبة
التي ستثقل كاهلهم جراء هذا الشرط طيلة
الأعوام الخمسة..
لكن هذا الأمر تجاهله المسؤولون في وزارة
التربية وما يزالون، رغم أنه يثبت أن معظم
القرارات الصادرة عنهم هي قرارات غير
مدروسة، وغير واقعية، بل هي مبنية على
آراء واقتراحات من لن تطبق عليهم هذه
القرارات، ومن لن يتكبد عناء الالتزام بها..
الأمثلة كثيرة على مثل هذه القرارات في
الأعوام القليلة الماضية. لكننا سنكتفي
بتسليط الضوء على معاناة الموظفين
والموظفات الجدد وما يصادفهم من مصاعب
يومية بعد التحاقهم بوظائفهم في مختلف
المحافظات..
مسابقة وزارة التربية لتوظيف لعام 2011
بعد صدور نتائج مسابقة وزارة التربية في
أواخر عام 2010 تم تعيين الناجحين في
مديرات التربية وقطاعات التعليم التابعة
لها من خريجي الإعلام وبعض الاختصاصات
التي ترتبط بتأهيل المدرسين والمدرسات،
إلا أن الناجحين في المسابقة، والذين لم
يصدقوا طاقة القدر فتحت لهم بحصولهم على
فرصة عمل في القطاع العام، لم تكتمل
فرحتهم عندما استلموا قرارات تعيينهم في
محافظات غير محافظاتهم لمدة خمس سنوات
كاملة قبل أن تتاح لهم فرصة العودة إلى
محافظاتهم، الأمر الذي حول تلك الوظيفة /الحلم،
من نعمة إلى نقمة.. وأصبحوا أمام خيارين
صعبين، إما أن يقبلوا الشرط ويتحملوا مشاق
الغربة وتكاليفها التي لا يستطيع راتب
التعيين الوفاء بها، وإما التخلي عن
الوظيفة نهائياً!.
وظائف للمقتدرين مالياً فقط!
تقول إحدى الفتيات من اللواتي تم قبولهن
في مسابقة وزارة التربية المذكورة: «لم
تكتمل فرحتي بإيجاد وظيفة حكومية، لأن
قرار تعييني في محافظة حمص قد فاجأني كوني
من سكان مدينة دمشق، ولأن هذه الفرصة قد
لا تتكرر قررت قبولها، الأمر الذي فرض علي
الابتعاد عن أهلي والعيش بمفردي في محافظة
لا أعرف أحداً فيها، إضافة إلى الأعباء
المالية التي كانت أقسى من الغربة والبعد
عن أهلي، فقد اضطررت لاستئجار منزل بمبلغ
عشرة آلاف ليرة سورية بينما راتب التعيين
لا يتجاوز /9000/ ليرة سورية، مما يجبرني
على الاستدانة فوق راتبي لدفع إيجار البيت
ولأستطيع الإيفاء بالمصاريف الأخرى، خصوصاً
أنني لا أعرف أحداً في هذه المحافظة حتى
يشاركني إيجار المنزل ويعيش معي فيه، وهذا
الوضع سيستمر لمدة خمسة أعوام كاملة..
فكيف لي أن أتحمل هذه المصاريف طيلة هذه
المدة؟»..
وتسأل هذه الموظفة الجديدة: «ألا يفترض
بالمسؤولين في وزارة التربية أن يتنبهوا
إلى مثل هذه المشكلات ويجدوا لها حلولاً،
أم أن دورهم يقتصر على فرض القرارات فقط.
وتقول موظفة أخرى عينت بالمسابقة المذكورة
نفسها: «قرار تعييني جاء في محافظة
القنيطرة وأنا من سكان مدينة دمشق، وبتُّ
مضطرة للذهاب يومياً من دمشق إلى القنيطرة
للالتحاق بوظيفتي، وزادت ساعات عملي من
ثماني ساعات إلى إحدى عشر ساعة بسبب الوقت
الذي أقضيه على الطريق ذهاباً وإياباً،
والمقدر بثلاث ساعات يومياً تضيع مني دون
ثمن، إضافة إلى مشاق الطريق الطويلة فأنا
بحكم المسافرة يومياً إذ لا أستطيع
الإقامة في محافظة القنيطرة قرب وظيفتي
بسبب راتب التعيين الذي لن يستطيع إعانتي
على مصاريف الحياة اليومية».
الوظيفة مقابل الحياة!
تقول إحدى الموظفات في مديرية تربية
القنيطرة وهي أساساً من سكان محافظة حمص:
«اضطررت للابتعاد عن بيتي وزوجي وأولادي
حتى لا أفقد هذه الوظيفة التي طال انتظاري
لها، وهكذا بدل أن تكون الوظيفة سنداً لي
ولعائلتي باتت عبئاً مضاعفاً علي وعلى
أسرتي التي تدخل في خانة ذوي الدخل
المحدود. وبسبب بعد المسافة بين حمص
والقنيطرة اضطررت لاستئجار منزل في
القنيطرة لأقيم فيه مع ابنتي التي لم
يتجاوز عمرها عاماً ونصفاً، وترك زوجي في
حمص مع ابنتي الأخرى البالغة من العمر
خمسة أعوام.
وأنا سأظل بحكم شرط التوظيف على هذه الحال
لمدة خمسة أعوام كاملة، إضافة إلى أنني
حامل في الشهر السادس، وأخشى أن يحين موعد
ولادتي دون أن أجد أحداً من أهلي بجانبي
فهل هذا منطقي؟ المسؤولون في وزارة
التربية يصمون الآذان عن سماع معاناتنا،
وهذا ما جعلني أتراجع عن تقديم أي اعتراض
أو استرحام، فعبارة وزير التربية المشهورة:
(لا حدا يراجعني قبل خمسة أعوام) تغلق
الطريق في وجه كل من يفكر بتغيير هذا
الواقع».
موظفة أخرى تم تعيينها في محافظة القنيطرة
تقول: «أنا من سكان اللاذقية وقد انفصلت
عن زوجي بسبب شرط التعيين الذي لم أجد له
مبرراً سوى القضاء على حياة الموظفين
الأسرية، فزوجي لم يستطع تحمل فكرة أن
يعيش في محافظة وأنا في محافظة أخرى،
وعندما قررت ألا أضيع هذه الفرصة التي قد
لا تتكرر فضّل الانفصال عني..».
وتسأل «ألا يدرك مسؤولو وزارة التربية
تأثير هذا القرار على حياة الموظفين؟».
تضيف موظفة أخرى تم تعيينها في محافظة حمص
وهي من سكان مدينة دمشق:
«سأضطر لنسيان فكرة الزواج نهائياً
وإلغائها من قاموسي، فأنا بلغت من العمر
/26/ سنة، علي أن أقضي فترة الخدمة
الإلزامية في حمص لمدة خمسة أعوام، مما
سيجعل عجلة حياتي الاجتماعية تتوقف طيلة
مدة الخدمة، فمن سيرضى أن يتقدم لخطبة
فتاة تعيش في محافظة أخرى؟ ومن هو الشاب
الذي سينتظرني لمدة خمسة أعوام؟».
تعيين خارج الاختصاص
أكدت إحدى الموظفات في محافظة القنيطرة
و(هي من سكان مدينة دمشق) أنه تم تعيينها
في قسم بمديرية تربية القنيطرة لا علاقة
له باختصاصها، ولولا أنها تقدمت باعتراض
لوزارة التربية وبذلت أقصى جهدها إعادة
فرزها ما كان ليتم تصويب الأمر.
وتقول بأن أعداد الموظفين الذين تم
تعيينهم خارج نطاق اختصاصهم كبير جداً،
لكن عدداً منهم رضوا بالأمر الواقع بسبب
اقتناعهم بعدم جدوى تقديم أي اعتراض.
وفي المشكلة نفسها تقول إحدى الموظفات
التي تم تعيينها في محافظة حمص وهي من
سكان مدينة دمشق، إنه تم وضعها في قسم لا
علاقة له باختصاصها إضافة إلى حشرها في
مكتب مخصص لثلاثة موظفين بينما أعداد
الموظفين المتواجدين فيه فعلياً سبعة،
يجلس كل اثنين على طاولة واحدة!.
الوزير يرفض سماع الشكاوى..
يؤكد أحد الناجحين في مسابقة وزارة
التربية الأخيرة أنه يعيش في محافظة دمشق
مع أبيه العاجز الذي لا يمكن تركه بمفرده،
وقد جاء تعيينه في محافظة دير الزور، وبات
عليه الالتحاق بوظيفته، فتقدم باعتراض إلى
وزارة التربية أطلعهم فيه على ظروفه التي
تمنعه من العمل في مكان بعيد، إلا أن
جوابهم كان نفسه الذي يتردد على لسان من
فكروا بتقديم اعتراضات لوزارة التربية،
والذين أجمعوا على أنهم سمعوا الجملة
المشهورة نفسها لوزير التربية: (لا حدا
يراجعني قبل خمس سنين).. لذلك قرر التخلي
عن هذه الفرصة والبقاء قرب والده العاجز
والعودة لعمله بائعاً في سوق الخضار رغم
أنه حاصل على شهادة جامعية.
ويضيف: «نحن ندرس لمدة 15 أو 20 سنة
لنستخدم بقرارات جامدة لا تعطي أي اعتبار
لظروف المواطن، والمسؤولون الذين يجلسون
خلف مكاتبهم الفخمة ليس لديهم أدنى شعور
بالآخرين، وكأنهم لم يمروا في بداية
حياتهم العملية بأية مشكلة كالتي يمر بها
معظم الخريجين الجدد».
إن معظم الأصوات التي تحدثت عن معاناتها،
وقعت ضحية سطوة القرارات غير المدروسة
مقابل الحصول على وظيفة لا تقي برد الشتاء
ولا ترد حر الصيف، فهل فكر المسؤولون
التربيون أن يجربوا ولو ليوم واحد، ما
يعانيه الموظفون جراء قراراتهم غير
المدروسة، كون التجربة هي خير برهان؟.. |