محكمة أمن الدولة العليا في سورية غير
قابلة للإصلاح مما يقتضي حلّها. تلك هي
خلاصة التقرير الزخم الصادر أخيرا عن
منظمة «هيومان رايتس ووتش» الدولية للدفاع
عن حقوق الانسان.
ربما لم تحظَ محكمة محلية بمثل هذا
الاهتمام في أي مكان آخر من هذا العالم!
حتى أنها تضاهي في «شهرتها» حقوقيا
وإعلاميا المحاكم الدولية. هي تستحق
وبامتياز مثل هذا الاهتمام. والقارئ
للتقرير الجديد الصادر حولها، الذي يحيط
بأدق تفاصيل عملها وإجراءاتها، سيصاب
بالدهشة مرة بعد أخرى. لا فرق إن كان قد
اطلع على بعض تلك المعلومات سابقا من
مصادر أخرى، فتلك المحكمة مصدر إدهاش لا
ينضب، حيث إننا نتحدث عما يفترض أنه جهاز
قضائي في القرن الحادي والعشرين، يتمثل
العدالة في القرون الوسطى المظلمة
ومحاكمها الشهيرة.
«هي محكمة استثنائية تعتبر خارج نظام
القضاء الجنائي العادي وتستخدم لمقاضاة من
ترى فيهم الحكومة تهديدا لها» وفقا لتقرير
«بعيدا عن العدالة: محكمة أمن الدولة
العليا في سورية». وثَّق التقرير ما وصفه
بالمحاكمات الشكلية لما لا يقل عن 153
معتقلاً خلال عام واحد، «بناء على اتهامات
فضفاضة تجرم حرية التعبير»، من مدونين إلى
نشطاء أكراد إلى مواطنين متهمين بـ«إهانة
الرئيس السوري في محادثات خاصة».
ويسجل للتقرير تركيزه على عدد من القضايا
المهمة، التي ترتبط بملفات أكثر شمولاً
فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الانسان في
سورية.
ففيما يتعلق بحق الدفاع، «يلعب المحامون
دورا محدودا ومظهريا إلى حد كبير في
تمثيلية للتظاهر باتباع إجراءات التقاضي
السليمة»، لكن ذلك لا يشكل بحال من
الأحوال مصدر قلق لنقابة المحامين في
سورية، ولم يدفع باتجاه أي مبادرة لوقف
هذا الانتهاك لحق كل من المحامي والمتهم
على السواء، الأول في ممارسة دوره المفترض،
والثاني في الحصول على حقه المشروع في
الدفاع. ارتضت النقابة لأعضائها وارتضى
الأعضاء لأنفسهم ممارسة دور شكلي بحت، بل
يفتقر حتى لأبسط الشكليات في ممارسة
المحامي لدوره.
النقطة الثانية، هي في تركيز التقرير على
محاكمات ما يعرف بالإسلاميين، «وجريمتهم
الأساسية في معظم الحالات يبدو أنها حيازة
أقراص مدمجة أو كتب لرجال دين أصوليين»
يقول التقرير، الذي يسرد حالات مفصلة
لقضايا من هذا النوع، لم تبرز فيها
المحكمة أي دليل مادي على «الجرم» الذي
يحاكم المعتقل على أساسه. والواقع أن قلة
المعلومات حينا، وضعف المتابعة الحقوقية
أحيانا أخرى لأوضاع هؤلاء المعتقلين،
والمناخ الدولي الذي شاع في ظل ما يعرف
بالحرب على الإرهاب، غالبا ما دفعتهم
وظروف اعتقالهم إلى الظل على الصعيدين
الحقوقي والإعلامي، رغم أنهم يشكلون
الأغلبية العظمى من المعتقلين تعسفياً في
سورية، وهم الشريحة الأوسع التي تمثل أمام
المحكمة سيئة الذكر.
أيضا، هناك التركيز على اعتقال ومحاكمة
المواطنين العاديين البعيدين عن أي نشاط
سياسي من أي نوع كان. هؤلاء يعتقلون بناء
على إخبارات من المخبرين و«الأصدقاء»
والجيران!
«يبدو كأن السوريين العاديين الذين لا
نشاط سياسياً لهم بالمرة، لا يمكنهم
الدخول في مناقشات خاصة أو تبادل للآراء
عن حكومتهم في مطعم أو في حرمة منازلهم»،
ويورد التقرير حالات عدة عن أحكام صدرت
بحق معتقلين على خلفية دردشة في مطعم أو
خلاف في الشارع.
محكمة أمن الدولة، تشكل الملتقى الذي تصب
فيه جميع الانتهاكات لحقوق الانسان وحرية
التعبير؛ المحكمة متوقفة عن العمل منذ
تموز الماضي، إثر اندلاع أحداث سجن
صيدنايا. التعتيم الكامل رسميا على ماحدث
ومصير السجناء، جعل أهالي المعتقلين
يتمنون معاودة المحكمة لنشاطها رغم
معاناتهم وأبنائهم معها، للاطمئنان على
أحبتهم. محكمة شكلية وحكم جائر أفضل من
مصير مجهول لابن لا يعرف هل هو حي أو ميت،
يقول الآباء والأمهات. هكذا تغدو المفاضلة
بين انتهاك وانتهاك.
لكن ذلك ليس حلاً على الإطلاق. لأن «جماهير»
محكمة أمن الدولة، من المعتقلين وعائلاتهم
والمحامين والنشطاء، لا يمكن أن يستمروا
في لعب الأدوار التي رسمت لكل منهم في
محاكمة شكلية تزيد من المعاناة وتمعن في
انتهاك القانون، الوطني منه قبل الدولي.
لماذا الحل يكمن فقط في حلَ المحكمة؟
لعلنا نجد الجواب في هذا الاقتباس من
التقرير، لوصف دبلوماسي غربي حضر عدة
جلسات أمامها:»
«المدهش في الأمر أنها لا تبدو أو تتسم
بما يميز المحاكم الحقيقية. فهي حجرة في
منزل وأحد القضاة يجلس وراء مكتب. وعادة
ما يعرض القاضي القضية بشكل موجز ويطرح
عدة أسئلة قليلة على المدعى عليه ثم تنتهي
الجلسة. ولا يتحدث المحامون قط، ولم أر قط
عرض أي دليل مادي. والجلسة برمتها لا تزيد
على 30 دقيقة لكل مجموعة [من المدعى عليهم]...
لم أر رئيس المحكمة يطالع أحد الملفات قط.
فهو يقول للمدعى عليه: هذا هو الاتهام،
فما قولك؟ وحين يتحدث المدعى عليه يقول
فجأة: كفى! ولا يطرح الادعاء الأسئلة أبداً.
وربما يضيف تعليقاً أو يروي مزحة لرئيس
المحكمة».
* كاتبة سورية |