بعد أن أصبح سكان المدن السورية، وأهل
مدينة دمشق تحديداً، يحسبون ألف حساب
لتأمين مسكن يؤويهم وأولادهم في هذه
الحياة الدنيا، تحوَّل سعيهم مؤخراً إلى
حجز مرقد لهم يؤويهم بعد وفاتهم، بل أكثر
من ذلك؛ حيث بدأ البعض بتوفير مبلغ من
المال لتأمين تكاليف الموت بطريقة محترمة،
بعد أن أصبحت تكاليفه توازي أو تتجاوز
تكاليف بعض أسباب الحياة ذاتها.
نعم، أصبح الموت همّاً يثقل كاهل كلِّ مَن
اقترب بخطواته من الضفة الأخرى.. معاناة
لا يشعر بها فقط مَن أسلم روحه إلى باريها،
بل أهله وأقاربه ممن لا ينقصهم أكثر مما
ابتلاهم الله به، ليجدوا أنفسهم أمام
مجموعة من أصحاب مكاتب ضيافة القهوة المرة
والزهورات وحفاري القبور والمغسل، وكلُّ
ذلك بعد تأمين قبر يتراوح سعره بين 20
ألفاً و200 ألف ليرة، ناهيك عن سيارة
الجنازة والقرَّاء وأجرة خيمة التعزية
والكراسي والإذاعة، والطعام في بعض
الحالات.
أهل المُتوفَّى في دمشق يجدون أنفسهم رغم
هول الفاجعة وجلالة الخطب، عرضةً إلى
الابتزاز والسمسرة، وقد تحوَّلوا إلى مطرح
استثماري من نوع جديد، استطاع العاملون في
قطاع الموت اكتشافه مؤخراً، بما أنَّ كل
شيء تحوَّل ليصبح قابلاً للاستثمار.. حتى
الموت!!
وتبدأ سلسلة المنغصات من تأمين القبر الذي
لم يعد أمراً يمكن العثور عليه بسهولة،
بعد أن ضاقت مقابر دمشق بساكنيها..
ويوجد في دمشق نحو 53 مقبرة، أهمّها على
الإطلاق مقبرتا: «الباب الصغير» بأقسامها
الثمانية، و»الدحداح» بمقابرها الخمسة،
إضافة إلى مقابر الميدان والبوابة والحقلة
والشيخ خالد والحرش وجوبر.. وهذه كلها
مقابر خاصة بالأحياء التي توجد فيها، وهي
بالتالي أصغر من «الباب الصغير» و»الدحداح»..
ولكن هاتين الأخيرتين هما أكثر المقابر
ضغطاً واستقطاباً لأهل دمشق، رغم انعدام
أيِّ مساحات «حرَّة» يمكن أن تستوعب أيَّ
أعداد جديدة. ومع ذلك، تشكِّل هاتان
المقبرتان بؤرةً للمتاجرة والسمسرة!!؛
فأهالي دمشق (الشوام) يفضِّلون دفن موتاهم
في هاتين المقبرتين.. ذلك أنهم يريدون أن
يُدفنوا في المقابر نفسها التي استقبلت
آباءهم وأجدادهم.. وهذا مِن حيث المبدأ حقٌّ
لهم، ولكنه أصبح غير ممكن حالياً.. على
الأقل في معظم الأحيان.
ودرجت العادة في دمشق، أن يصبح القبر الذي
دُفن فيه الجد ورثة شرعية لعائلته؛ أي
لأبنائه وأحفاده من بعده.. ويحقُّ لأيٍّ
مِن هؤلاء أن ينزل في هذا القبر شرعياً،
وهذه فتوى من وزارة الأوقاف، تؤكِّد على
أنَّ مَن يحقُّ له الانتفاع من القبر هو
الوريث الشرعي من العصب؛ أي الابن
والأحفاد.. ولكن بشرط أن يتمَّ التأكُّد
من فناء الجثة الموجودة؛ أي أن يكون قد
مضى على دفنها خمس سنوات وما فوق..
إلا أنَّ ذلك أدَّى إلى حصول خلافات
ومنازعات على أحقية الاستفادة من هذه
القبور، حتى بين الإخوة أحياناً.. وهنا
يتدخَّل مكتب دفن الموتى الذي يحاول
العودة إلى سجلاته في ما يخصُّ كلَّ قبر
من القبور.. وإن استعصى الحلُّ، يتمُّ
اللجوء إلى القضاء، وهو ما حصل في العديد
من الحالات.
ويقوم مكتب دفن الموتى في محافظة دمشق
بتصميم إضبارة لكلِّ قبر، تظهر فيها كلُّ
المعلومات عن المستفيدين من استحقاق
الدفن.. لكن ذلك لا يعني أنَّ كلَّ شيء
على ما يرام؛ فالكثير من الناس ظُلموا
وحُرموا من إمكانية الاستفادة من حقوقهم
في مقابر لآبائهم وأجدادهم.. وهذا سبب
رئيس في المشاكل التي يمكن أن تحدث.. ومن
هنا يمكن توقُّع أن يلجأ الكثير من الناس
إلى طرق تبدو غريبة في هذا المجال!!
¶ مهن تعيش على الأموات!!
نشأت في السنوات الأخيرة مهن وخدمات
ارتبطت بالموت.. حيث أصبحت هذه الخدمات
موجودة وبقوة، ويعمل فيها المئات ممن
اكتشفوا أنَّ الموت هو أيضاً مطرح يمكن
الاستثمار فيه.
يقول أبو علي المنيني، وهو صاحب «مكتب
الضيافة والقهوة المرة لكافة المناسبات»،
إنَّ هذه المهنة بدأت منذ قرابة السنوات
العشر؛ حيث أخذ سكان المدن يعتمدون على
بعض العمال في تقديم القهوة المرة
للمعزِّين، ثم تطوَّر الأمر ليصبح عامل
القهوة يؤمِّن الخيمة والكراسي، وأخذ
بعضهم يتواصل مع القرَّاء والمغسّلين
وحفَّاري القبور، ليشكِّلوا سلسلة من
الخدمات التي تختلف بأجورها ومستوى
خدماتها، تبعاً للحالة المادية لأهل
المُتوفَّى؛ فتكلفة خيمة التعزية مع
الكراسي والقرَّاء والضيافة والسجّاد،
تتراوح بين 20 ألفاً و200 ألف ليرة سورية،
وقد تتوسَّع مهمة بعض المكاتب إلى طباعة
النعوات وإلصاقها، بالإضافة إلى تأمين
القبر، لاسيما أنَّ أهل المُتوفَّى لن
يكونوا في حالة تسمح لهم بملاحقة هذه
التفاصيل وتنظيمها.
وللخيمة مستويات وميزات؛ فمنها مع صالة،
ومنها مع فرش، ومنها مع طبخ، بالإضافة إلى
المشروبات؛ من قهوة مرة وليمونية وقهوة
حلوة وكمون وزهورات وشاي، لكن المشكلة
أنَّه لا يوجد قانون أو جهة تنظِّم عمل
هذه المكاتب، ولاتوجد رخصة تمنحها
المحافظة أو وزارة الأوقاف لممارسة هذا
العمل، ومعظم تلك المكاتب تتألَّف من هاتف
ثابت في المنزل وعدّة الشغل (مجموعة من
الترامس والفناجين).
ورغم ذلك، مازالت بعض المناطق ترفض
استخدام هذه المكاتب لتقديم الخدمات
للمعزِّين، مثل منطقة «مضايا» التي تعتبر
هذه الظاهرة معيبة في حقِّ أهل
المُتوفَّى، حيث يفضِّل السكان هناك تقديم
الخدمات بأنفسهم، مثلهم مثل معظم أبناء
الريف السوري الذي لم تدخله ثقافة المكاتب
وحضارة الاستهلاك والاستثمار في المآسي
والأحزان.
تسعيرة شكلية
مكتب الدفن وبالتعاون مع المحافظة
وتلافياً لحصول التجاوزات وغيرها، وخاصة
في ما يتعلَّق بابتزاز الحفَّارين
والكشَّافين لأهل المُتوفَّى، يقوم بوضع
تسعيرة نظامية يلتزم بها الحفَّار الذي لا
يعدُّ موظفاً رسمياً.. بل يعتمد في أجره
على ما يأخذه من أهل المتوفَّى..
ويأخذ الحفَّار من مكتب الدفن مبلغاً قدره
(ألف ليرة سورية) عن كلِّ متوفَّى يقوم
بدفنه- بحسب مصادر مكتب الدفن- وهو في هذا
السياق، لا يحقُّ له أن يطالب بشيء آخر،
إلا إذا قام بتعمير القبر.. والتعمير
محدَّد بلائحة توضع على باب كلِّ مقبرة..
ليستطيع المواطن قراءتها ومعرفة الأسعار
الحقيقية التي يجب عليه دفعها..
وتقول اللائحة إياها، إنه بموجب قرار مجلس
محافظة دمشق رقم /43/م.د/ للعام 2000،
فإنَّ التكلفة الحقيقية للقبر من الأسفل
وحتى الهيكل هي:
1 - قبر عادي من الأسفل بتكلفة خمسة آلاف
ليرة سورية لكافة هياكل القبور (تُدفع
للحفّار).
2 - هيكل لقبر من بلوك وطينة مع شاهدة
وجرن مع حفر الأسماء والرقم على الشاهدة
طبقة واحدة 2500 ليرة، فيكون مجموع
التكلفة للإنشاء والهيكل (7500) ليرة
سورية.
وبحسب هذا القرار، يحقُّ لذوي الوفية بناء
الهيكل الخارجي من قبلهم مع تعهُّدهم بعدم
الإضرار بالقبور، بإشراف مكتب الدفن
والحفّار، كما يحقُّ لأيِّ مواطن تقديم
شكوى خطّية مباشرة إلى السيد مدير مكتب
الدفن في حال طلب الحفَّار زيادة على
التسعيرة المذكورة أعلاه..
¶ ابتزاز وسماسرة
¶ فيلات في الآخرة
تختلف المدافن «المسيحية» في دمشق عن
نظيرتها «الإسلامية» في معظم الطقوس
المرافقة للجنازة، ولكنها تماثلها في كون
القبور لدى الجانبين تحوَّلت إلى ما يشبه
المساكن من حيث ارتفاع أسعارها، لا بل
إنَّ سعر القبر هنا يزيد أضعافاً على ما
هو لدى المسلمين.
ففي مدافن الروم الكاثوليك في دمشق، يصل
سعر «المغارة» إلى 700 ألف ليرة، مع الفرق
في أنَّ المغارة هنا هي لكلِّ العائلة،
ويشترك الإخوة في تسديد ثمنها الباهظ.
ويعزو المشرف على مقبرة الروم الكاثوليك
ارتفاع الأسعار هنا، إلى عدة أسباب؛ أولها
عدم وجود مقبرة أخرى لهذه الطائفة في
دمشق، وثانيها أنَّ البديل للحصول على
مغارة هنا هو قيام بعض العائلات بشراء
أراضٍ لها لتكون بمثابة مدافن خاصة بها،
وهذه لن يقلّ سعرها عن هذا المبلغ، بل
ويزيد كثيراً على هذا المبلغ، ليصل إلى
الملايين وحسب المنطقة. أما السبب الآخر
الذي يدعو إلى التفاخر- بحسب القائمين على
هذه المقبرة- فهو المقبرة نفسها، التي
تتميَّز بتنظيمها ونظافتها وأناقتها،
والأهم استعمال أفخر أنواع الرخام
الإيطالي لإكساء القبور فيها، حيث يتمُّ
استيراد الرخام مباشرة من إيطاليا، وهو
باهظ الثمن؛ «لكن المستفيدين لا يمانعون
في ذلك».
لكن المقبرة ضاقت بساكنيها الأبديين، ولم
تعد تتَّسع للكثير من الضيوف الجدد، ولذلك
تمَّت إزالة بعض الأشجار والمنصِّفات
لإنشاء مقابر جديدة. وهنا أيضاً يبدو أنَّ
المبالغ التي تُدفع للحصول على قبر حوّلت
المكان إلى مطرح آخر من مطارح الاستثمار
التي اكتشفتها مؤخراً جمعية «ماربولس»
المسؤولة عن هذه المقبرة.
ورغم أنَّ الحكومة طرحت على الجمعية
تخصيصها بأرضٍ جديدة لتكون مقبرة لطائفة
الروم الكاثوليك، إلا أنَّ الجمعية رفضت
ذلك، مفضِّلة استثمار ما أمكن من الحدائق
لقاء مبالغ تبدو خيالية، وتدرّ عليها
أرباحاً لن تحلم بها.
ويضاف إلى أسعار القبور هنا، عنصر آخر
يشكّل بنداً إضافياً لدى العائلات
المسيحية، وهو سعر «التابوت» الذي تختلف
وظيفته وخلافاً للمسلمين، بكونه سيحتضن
المُتوفَّى ويكون مقرّاً أبدياً، وليس كما
لدى المسلمين وسيلة لنقل الجثمان تُستخدم
لجميع الُمتوفِّين.
وتتراوح أسعار التوابيت ما بين 50 و100
ألف ليرة، وبحسب أحد العاملين في محل
«تاطروس» الخاص بتصنيع واستيراد التوابيت
(في باب شرقي): «هناك مَن يطلب أفخم
التوابيت، ولذلك فنحن نستورده من أمريكا
وإيطاليا، ولكننا نقوم بتصنيع توابيت خاصة
بنا هنا، وأسعارها تختلف بحسب نوعية الخشب
المستخدم فيها».. ولا تختلف الإكراميات
التي تدفع هنا عن مثيلتها لدى المسلمين،
فبدلاً من الشيخ والحفّار والكشّاف
والمؤذِّن والمغسّل، يوجد هنا الخوري
والحاشر والقندلفت والمرندِح، ولكلِّ واحد
من هؤلاء إكراميته التي سيدفعها أهل
المُتوفَّى، وإن اختلفت الطريقة التي
يتمُّ فيها الدفع.
¶ القطاع الخاص .. لِمَ لا؟!
أدَّت التجاوزات التي شهدتها المقابر في
المدن إلى إثراء بعض الحفارين والشبكات
المتعاونة معهم، ومن هنا يبدو السؤال عن
إمكانية تحوُّل هذا القطاع إلى مطرح
للاستثمار الحقيقي من قبل القطاع الخاص
منطقياً، حيث يقول رئيس غرف التجارة
والصناعة السابق، راتب الشلاح: «هذه
العملية لا يمكن أن يقوم بها إلا الحكومة،
ولدينا عدة مؤسسات حكومية من مهماتها
إيجاد رقعة أرض تصلح لتشييد مقبرة قريبة
من المدينة ومناسبة للدفن.. أما بالنسبة
إلى القطاع الخاص، فلا يمكنه وحدة القيام
بهذا المشروع، بل يمكن أن تقوم الدولة
بإيجاد الأرض وتنظيمها، ثم يقوم القطاع
الخاص بإكمالها واستثمارها، كما حدث في
حلب مثلاً». ويؤكِّد الشلاح على ضرورة
تسعير الأرض وتحديد أسعار القبور، كي يدخل
القطاع الخاص، لا كما يحصل الآن من
عشوائية في التسعير واستغلال لحاجة أهل
المُتوفَّى.
¶ سرقة بالتدريج.. والشهود لايتكلَّمون!!
يرى الاستشاري الاقتصادي، سعد بساطة، أنَّ
الاستيلاء على القبور يتمُّ بالتدريج؛
نتيجة ضيق المقابر التي لم تعد تستوعـب
ألوف الأموات، وعـائلات تضطرُّ إلى إنزال
ميت فوق آخر بعـد مضي المدة، فيتمُّ تكسير
الشاهدة، وتخريب بسيط بغـية جسِّ النبض،
فإذا سارت الأمور بلا تذمـّر كان ذلك
مؤشـّراً عـلى كون العـائلة في المغـترب؛
هنا يتمُّ تنفيذ مخطط السرقة بنجاح، وبعـد
سنوات تتمُّ عـملية بيع القبر من جديد،
والأموات الشهود عـلى العـملية
لايتكلـّمون!!.. وبيَّن بساطة أحد الحلول
التي لجأ إليها البعض بسبب ارتفاع
الرعـاية الصحية، وزيادة الأعـمار، وكثرة
سكان عـالمنا؛ حيث لجأ الكثيرون إلى طقوس
شبيهة بالهندوسية «حتى في الغـرب»؛ من
خلال حرق الجثة في طقوس مهيبة، ثم تحتفظ
العـائلة بزجاجة فيها رماد المرحوم. ويضيف
بساطة: «لكن هنا، تقوم البلدية، أو مكتب
دفن الموتى، بإجراء الطقوس كلها، ولكن
استمراراً لعـدم المساواة الحاصلة أثناء
الحياة، فلدى الموت تختلف سويـّة الطقوس
بمقدار ثراء المرحوم، ونوع السيارة، وأذان
الميت، وموقع القبر، وكسائه (مرمر أم حجر
عـادي، أو مجرّد صبـّة بيتون)»..
إذا صار من الواجب فرد ميزانية خاصة
للموت، وطقوسه وإجراءاته، فقد أضحى ترفاً
لايستطيعـه الفقراء، وله تكاليفه التي
ينوء تحتها عـتاولة الأحياء...
مقابر موحشة وأخرى «بتشهّي للموت»
المقابر هنا موحشة، موحلة، يختلط عـاليها
بسافلها، يحيط بها مئات من المتسوِّلين
والمعتوهين، ويقول سعد بساطة: «تحاول هنا
اختصار الزيارة ما أمكن، أما في الغـرب-
وبحسب أحد أصدقائنا من الظرفاء- فالمقابر
بتخطيطها وزهورها وجوّها الجميل
الوقور»بتشهـّي الموت»..
أما التعـزية (مقرئ أو مسجـّلة)، سواء في
جامع ضخم أم بيت أم سرادق في شارع فرعـي..
فهي قهوة مرة، وتوزيع القرآن بطبعـة
فاخرة، وفي اليوم الثالث مأدبة للأقرباء
والمقرئين والفقراء، فيها من الأصناف
والحلويات، والكلُّ يمضغ ناسياً رهبة
المناسبة»..
وينتهي بساطة إلى اعتبار أنَّ الغلاء جعل
الناس يختصرون الكثير من الطقوس بالولادة،
والأعـياد، والأعـراس، وغـيرها، ولو
أمكنهم لألغـوا راحة الموت بسبب تكاليفه
التي أضحت باهظة في السنوات الخيرة!!
كل هذا وأكثر.. أم مجرد تمتمات بالترحـّم
عـلى الميت وكلٌ يسير في طريقه، وينخرط
بمشاغـل الدنيا وهمومها، و«العـترة عـلى
من أصبح تحت التراب»!!.. |