بحلول السابع عشر من نيسان، يكون
قد مضى أربع وستون عاما على استقلال بلدنا
سوريا، بعد نضال شاق وطويل، انخرط فيه
الجميع، وتسابقوا في الدفاع عنه، وتعاهدوا
معا على حمايته، وبناء مستقبل مشرق
لأجيالنا القادمة، وساهموا في التأسيس
لولادة دولة وطنية ديمقراطية تعددية لا
تميّز بين مواطنيها سوى درجة الولاء للوطن،
والتفاني في خدمته والدفاع عن كرامة
أبنائه من العرب والكرد والآثوريين
والأقليات القومية.
لكن التطورات اللاحقة سارت بما لا ينسجم
مع مبدأ الشراكة الوطنية التي ترسّخت من
خلال الوحدة الوطنية التي وقفت وراء
الجلاء، كرافعة نضالية، فقد تنامت النزعة
الإقصائية لتحلّ بالتدريج محل التعددية
السياسية والقومية والدينية، واتخذت تلك
النزعة شكلا أكثر وضوحا بعد استلام حزب
البعث للسلطة حيث كرّس سياسة الحزب الواحد
رسمياً، من خلال إدخال المادة الثامنة في
الدستور السوري، التي احتكر بموجبها قيادة
الدولة والمجتمع، وطبّق الأحكام العرفية
السارية المفعول حتى الآن، ليستعين بها في
تعطيل الحياة السياسية بناء على ذرائع
تتعلق بالتهديدات الخارجية والاحتلال
الإسرائيلي للجولان الذي يمنح المقاومة
الوطنية لتحريره الشرعية المطلوبة، لكن
تحرّر الأوطان محال بدون حرية شعوبها، لأن
المعنى الأساسي للجلاء هو القطع مع
الاستعباد والتمييز، وبناء المواطن الحر
الذي يشعر بأنه لم يعد مضطهداً من أحد.
وكان أول المتضررين من تلك النزعة
الإقصائية هو شعبنا الكردي، الذي اختار
طوعاً التعايش مع شريكه العربي، وتعاهد
معه، في وثيقة العهد الوطني، على مواصلة
النضال من أجل استكمال عملية التحرر،
ومتابعة مسيرة الاستقلال حتى يندحر
الاضطهاد بجميع أشكاله، وينعم الجميع
بخيرات هذا الوطن، وتوزّع فيه المسؤوليات
الجديدة حسب الكفاءة والإمكانات، ويتقدّم
الولاء له على أي ولاء آخر. لكن خيبة أمله
كانت مريرة، وابتدأت معاناته بإنكار الدور
والوجود الكردي، والتنكر للحقوق القومية
الديمقراطية ولشرعية حركته الوطنية،
وتكبيله بحزمة من المشاريع العنصرية
والقوانين الاستثنائية من حزام عنصري
وإحصاء رجعي وعمليات تعريب، طالت التجمعات
البشرية والمعالم الطبيعية، استهدفت
جميعها تغيير الحقائق التاريخية
والديمغرافية للمناطق الكردية، وعرقلة
تطورها الاقتصادي والاجتماعي، وخلق حالة
احتقان شديدة داخل المجتمع الكردي ...
ورغم أن الظلم والإجحاف امتدّا إلى حدود
الشطب بحق شعبنا المسالم، ورغم محاولات
التشكيك بوطنيته وتشويه حقيقة أهدافه وربط
أية مطالبة بإنصافه أو أية مقاومة للظلم
اللاحق به بالخارج، فقد أكّد دائما على
التمسك بأصالته الوطنية، وأصرّت حركته
الوطنية على الحل الديمقراطي العادل
لقضيته في إطار وحدة البلاد، وعلى التمسك
بسياستها الموضوعية البعيدة عن التوتّر
والشعارات المستقطعة عن سياقها الطبيعي
والتي برزت في بعض الأحيان على شكل
توجيهات من جانب السلطة لاستعداء الرأي
العام السوري على المكوّن الوطني الكردي،
وتبرير سياسة الحرمان والقمع بحق حركته
وكوادره، الذين يقبع العديد
منهم في السجون والمعتقلات، خاصة في هذه
المرحلة الموصوفة بالتشدّد الأمني وبحملات
الملاحقة والتضييق على فرص العمل والتوظيف
بالنسبة لأبناء وبنات شعبنا الكردي، الذي
تمتزج لديه ذكرى الجلاء، بما تعنيه من فخر
واعتزاز، مع آلام الحرمان، ومع التطبيقات
المقيتة للسياسة الشوفينية المنتهجة التي
تنعش بدورها الفكر الانعزالي، الذي طرأ
مؤخراً على الثقافة الوطنية الكردية، مما
يشكّل حالة شاذة تستثمرها السلطة لتشويه
القضية الكردية في دفع بعض النخب الثقافية
والسياسة السورية للتشنج والانفعال غير
المبرّر والاصطفاف أحياناً مع النظام في
تعامله مع الشأن الكردي، ومحاولة حرمان
هذه القضية بالتالي من عمقها الوطني، وهو
ما يتطلب من الحركة الكردية مواجهته بجدية،
والانخراط في النضال الديمقراطي العام..
كما أن الحركة الوطنية في البلاد مدعوة
للوقوف إلى جانب شعبنا الكردي ومساعدة
المواطن الكردي للتحرّر من الغبن، ليشعر
بأنه سوري بقدر ما هو كردي، وبأن التمسك
بانتمائه القومي لا ينتقص من وطنيته، ولا
يسئ إلى غيره من أبناء القوميات السورية،
التي ترسم بتعايشها المشترك لوحة جميلة
لوطننا المشترك، وتغني ثقافته، وتحصّن
جبهته الداخلية، وتعزّز مهام التصدي لكل
المخاطر والضغوطات الخارجية التي تواجهها
سوريا، التي لا يمكن الحديث عنها، كوطن
مستقل، دون الحديث عن مواطنين أحرار
يفتخرون بالانتماء له. يدافعون عنه، كواجب
مقدس، ويتمتعون بخيراته، كحق مكتسب،
فتجارب شعوب العالم غنية بما يكفي لإثبات
عجز سياسات اللون الواحد، سياسياً وقومياً
ودينياً، والحزب الواحد، مهما كبرت قدراته،
في قيادة بلدانها إلى بر الأمان، وشواطئ
السلام والتقدم .
إن الوفاء لذكرى الجلاء يتطلب استلهام
العزيمة على مواصلة النضال في سبيل حرية
المواطن وكرامة الوطن، التي تتطلب إلغاء
الأحكام العرفية والمحاكم والقوانين
الاستثنائية، وإغلاق ملف الاعتقال السياسي،
وتوحيد الصف الوطني العام، والعمل على
إنجاز عملية التغيير الديمقراطي السلمي
المتدرج، وتنظيم قانون لعمل الأحزاب،
وإقرار مبدأ تداول السلطة وحرية التعبير،
وإنصاف شعبنا الكردي، وإنهاء العمل بسياسة
الإهمال المتعمّد للمناطق الكردية التي
تنزف بشراً من خلال الهجرة القسرية، سواء
إلى ضواحي دمشق أو أوربا والجوار الإقليمي،
والعمل على إيجاد حل ديمقراطي عادل للقضية
الكردية .
عندها يصبح للاستقلال طعماً آخر، وتصبح
سوريا لجميع أبنائها الذين سيستعيدون ما
تعاهدوا عليه من شراكة وطنية، تقرّ بأن
الشعوب هي التي تدافع عن أوطانها عندما
تشعر بأنها مسؤولة عنها، وشريكة في صياغة
قراراتها، وبناء مستقبلها، وصاحبة مصلحة
في الدفاع عن ترابها ومصالحها، وتمتلك
الحرية الكافية في التعبير عن فرحتها
بقدوم هذا العيد الوطني باللغة القومية
الأم لكل مواطن، وتصان فيها حقوق الإنسان،
بما فيها الإنسان الكردي، الذي باتت مختلف
القوى الديمقراطية تدرك بأن ما يدور حولنا
من تطورات تجتاح العالم كافية لإثبات أن
سياسة الإنكار المتعمّد لوجوده كشعب،
يستمد جذوره من أعماق تاريخ المنطقة، لم
تعد قادرة على الصمود في مواجهة الحقيقة
الكردية، كجزء من حقيقة وجود دولة اسمها
سوريا استقلت عام 1946 ، بعد أن تضافرت
الجهود، واختلطت الدماء، وتلاقت إرادة
المناضلين، من السويداء حتى القامشلي، ومن
اللاذقية حتى ديرالزور.. وستظل بحدودها
الحالية دولة العرب والكرد والاثوريين
والأقليات القومية المتآخية، وسوف يأتي
اليوم الذي يكشف فيه الجلاء عن معانيه
الحقيقية، ويكتشف الجميع بان السياسة
الشوفينية أساءت كثيراً للوطن، وشوّهت
صورة الاستقلال، عندما أساءت للكرد
السوريين، وسعت من خلال مشاريعها العنصرية
لتحجيم دورهم في البناء والتقدم. وعندما
زجّت بالمناضلين منهم في السجون التي لا
تزال تعجّ بالمدافعين عن قضية التغيير
الديمقراطي السلمي وحقوق الإنسان، في
الوقت الذي تتطلب فيه مصلحة سوريا أن
تفرّغ من أصحاب الفكر والضمير. وأن تحوّل
بؤرة الاهتمام إلى مصالح الناس، بدلاً من
إرهابهم، واحترام الحقوق دون تمييز،
تمهيداً للانتقال إلى دولة القانون
والمجتمع المدني. دولة لا مكان فيها للظلم
، يستعيد فيها أبناؤها استعدادهم للتضحية
والفداء،مثلما فعل المجاهدون الأوائل في
معارك الجلاء.
*فتحية لذكرى الجلاء والاستقلال وشهدائه
الأبرار.
* وتحيـة لكل المنـاضلين من أجـل
الديمقراطية.
----------------
*افتتاحية جريدة الوحدة العدد 201 |