لايرغب
علاء ورفاقه من طلبة جامعة دمشق بزيارة
المكتبة، إلا ما ندر، وما ندر هذه تعني
أنّ دكتور مادة ما طلب منهم القيام ببحث
علمي ومنهجي، فلا مفر هنا من زيارة (مكتبة
الأسد) على الأقل، والبقاء (مرغمين) في
أروقتها ويعترف علاء (30 عاماً) أنه لا
يحبّ الذهاب إلى المكتبات لطالما جميع
الكتب موجودة على النت مجاناً، كما أن تلك
المكتبات لا توفر ما يريده قارئ اليوم.
في حين ينظر القائمون على أمر تلك
المكتبات أن واقع القراءة في سوريا يواجه
مشكلة هي أكبر من قدرة المكتبة على توفير
كتاب جديد، وأسباب عزوف شباب اليوم عن
القراءة ليس لتوافر الكتب إلكترونياً،
ويعتبرونها مجرد حجج واهية على اعتبار أن
المكتبات في السعودية تكتظ بالزوار وأن
المكتبات في أوروبا (قلب الثورة الرقمية)
مؤلفة من ثلاثة طوابق يصل الاشتراك في
الواحدة منها إلى خمسة آلاف مشترك حسب ما
تبينه (موسوعة ويكيبيديا العلمية).
ويرى آخرون أنّ المشكلة الآن في خصوصية
وطبيعة الحالة السوريّة، فلماذا لا يزور
الطلبة والشباب الحالي المكتبات؟ لماذا لا
يقرؤون؟ لماذا لا يتهافتون إلا على الكتب
السطحية؟ كما تصفها مروى (طالبة ماجستير -
إرشاد نفسي)، قد لا نجد إلا إجابة وحيدة:
الجيل لا يريد أن يقرأ.
في الشتاء الفائت نظمت دور نشر في سوريا
مؤتمر بحث عن أسباب أزمة القراءة في
سوريا، عدا أن المؤتمر لم تحضره أي جهة أو
منظمة شبابية وبقي القائمون عليه يصرخون
في واد والجمهور المتلقي في واد آخر.
عدا عن ذلك كله فلم يخرج الباحثون
والمشاركون بنتائج علمية ودراسات موثقة
تتناول واقع القراءة في سوريا، فاليوم لا
يمكن لأحد في البلاد الحكم على الاتجاهات
الثقافية الحالية للجيل الجديد، فهؤلاء
يقرؤون ولا يقرؤون، يقرؤون الأدب العالمي
وكتب السياسة كما يقرؤون ماغي فرح ونجلاء
قباني، ويزورون المراكز الثقافية في دمشق
ولا يزورون مكتباتها، الأولى تقدم أدباً
وفناً وعلماً وسينما، والثانية كذلك تفعل
ولكن.؟! بالكاد تجد من يحضر ندوة واحدة،
هل نوعية الثقافة المقدمة تختلف، أم
الاتجاهات لديهم هي المختلفة، أفضل سماع
شبابنا على سماع المنظرين السوريين الذين
فضلت حيادهم في هذا التحقيق، تقول ألمى:
(أزور يومياً المركز الثقافي الألماني،
ومن أشد المتابعين لحركة الأدب في
ألمانيا، ولكني لا أعرف من هي كوليت خوري
أو غادة السمان، هل أنا غير مثقفة).
المشكلة الآن باتت معروفة: هناك أزمة
قراءة يعيشها العالم برمته والعالم العربي
على وجه التحديد يعيشه أكثر من غيره، وكل
باحث اجتماعي أو عالم سيكولوجي خلص في
دراسته إلى أنّ الأمر يعود للأسباب ذاتها
وهي طغيان التكنولوجيا التي غيرت اتجاهات
القراءة إضافة إلى عدم القدرة على شراء
الكتب.
إنما الواقع يقول بعكس ذلك في الحالة
السورية فلا استطاع شبابنا الاندماج
بأجواء الثورة الرقمية والانخراط بمناخها
بما فيه الثقافي ولا يمكن في ذات الوقت
الحديث عن انخفاض القدرة الشرائية للشباب
الحالي وأرقام البيع عند دور النشر تثبت
عكس ذلك فدار علاء الدين للنشر باعت في
معرض الكتاب الأخير بنسب بيع تصل إلى أي
دار نشر في بيروت أو القاهرة، والمعروف أن
كتب هذه الدار أغلبها من الأدب العالمي
ومذكرات السياسة والأدب الرفيع، إذن كيف
لنا أن نفسر غياب تواجد الشباب في مكتبات
دمشق وفي معارض الكتب، كيف؟ ومن يحلل
نتائج استبيان نظم مؤخراً شمل (100) عينة
من طلبة جامعة دمشق خلص إلى أن شباب اليوم
لا يزورون المكتبة سوى زيارة أو زيارتين
تكون أولها في بداية العام الجديد بحثاً
عن كتب الأبراج وثانياً بحثاً عن كتب نال
جائزة آخر السنة.
فارق زمني كبير لاحظناه بين قراءة الكتاب
الأول والكتاب الثاني، أي المؤشرات سنحصل
عليها في حال عرفنا أن (25) طالباً في
جامعة دمشق لم يقرؤوا ولا كتاب تاريخي أو
علمي خلال السنة (2009)م.
ما دلالة أن (40) طالباً يفضلون قراءة
الكتب الدينية والمواعظ أو السيرة
النبوية.. في حين يصل أعداد الطلبة الذين
يقرؤون كتب الأبراج والطبخ ورسائل الجوال
وتعلم اللغات والتصميم والكمبيوتر إلى
أرقام مرعبة.
يؤكد ما سبق (جميل نظر) صاحب دار نوبل
بالقول: (لم أبع سوى كتاب تاريخي واحد
خلال الشهر الفائت في حين بعت ستة كتب
تعنى باللغات وبتعلم الكمبيوتر، استقبل في
مكتبتي شرائح معنية تنحصر بطبقة
المتقاعدين وكبار السن ممن يهمهم قراءة
المذكرات وسير الأولين، ومن النادر جداً
ما يزورنا طلبة جامعة للسؤال عن كتب معينة
قديمة لا توجد إلا عندنا).
ويضيف نظر إلى أن المشكلة تكمن في انعدام
الرغبة لدى الشباب السوري في القراءة: (لا
نعرف السبب في ذلك، أن العالم لا يعيش
أزمة قراءة بالمعنى الحقيقي للكلمة،
وتقارير التنمية البشرية تؤكد أن أمريكا
هي الأمة الأمية تنتج من الكتب «الورقية»
ما يعادل الخمسة مليون كتاب شهرياً، هل
هذه الكتب تتلف وتمزق كما عندما أم
تستهلك؟ ربما تستهلك إلى جانب استهلاك
الهمبرغر وفي المتاجر الكبرى لكنها في
النهاية مستهلكة ومتوافرة).
تشير النتائج الأولية لاستبيان بسيط نظمته
أن ما يميز الاتجاهات الثقافية لدى الشباب
الحالي التوجه نحو الكتب السطحية، وتصف
مديرة مكتبة الزهراء هذا التوجه بالسطحي
وغير اللائق بنا كشعوب لها تاريخها وإرثها
الثقافي ووجدانها الشعبي العام، (اليوم
عندما لا نبيع ولا كتاب علمي أو تاريخي أو
بحثي أو سياسي إلا كل ثلاثة أشهر ماذا
يمكننا القول في أزمة القراءة. بالمناسبة
هذه الحالة موجودة فقط في سوريا، انظري
إلى مكتبة جرير في السعودية أقاربي هناك
يتحدثون عن أن النساء السعوديات يفضلن اسم
المؤلف ودار النشر والمكتبات هناك على عكس
ما نتصورها فهي مكتظة على الدوام).
وتوضح أن انعدام قدرة الشباب على اقتناء
كتاب هي السبب في تحديد الاتجاهات
الثقافية في هذا المسار، فأي أفضل لشباب
اليوم شراء كتاب بـ(700) ليرة سوريّة
كشيفرة دان بروان أم تحميله مجاناً على
النت والذهاب إلى التسوق مثلاً، يأتي ذلك
كله في ظل انعدام التسهيلات من الجهات
الرسمية، نحن مكتبة الآن نواجه صعوبة
الاستمرار وستغلق مكتبتنا قريباً، لأن
ارتفاع التكاليف لا يمكن احتماله، في معرض
الكتاب دفعنا أجرة حجز جناح أكبر بكثير من
أرباحنا خلال أسبوع كامل من العرض.
لكن بالمقابل نرى ظاهرة جديدة بدأت تلوح
بالأفق وجود مكتبات جديدة (إيتانا- بيجز)
تقدم خدمات حديثة تتلخص في إمكانية قراءة
الكتاب إلى جانب الاستفادة من خدمات
الإنترنت والمطبخ المفتوح، وتصل قيمة
الاشتراك الشهري إلى (100) دولار ومع ذلك
تمتلئ قوائم الاشتراك لديهم وهو حال مكتبة
(إيتانا) تقول يمن أبو الحسن (مسؤولة
المكتبة): (كل زوارنا تقريباً هم من
الشباب ويأتون لقراءة الكتب والدخول إلى
الإنترنت والاستماع إلى جلسات مقهى علم
النفس التي أدرجت حديثاً في برنامج
المكتبة.
واتجاهات الشباب الثقافية باتت مختلفة فلا
يوجد لدينا مكتبة تحوي كتب سياسة أو تاريخ
أو بحث أو أدب مقارن، ويمكن القول أن
مشروعها ناجح بجدارة، المشروع الآن مختلف
تماماً، الإقبال حالياً على الكتب الحديثة
كراويات الخيال العلمي والعيش في العالم
الافتراضي أو كتب الهندسة والتصميم وقياس
المهارات والذكاء هو المطلوب، لا يمكننا
الاعتماد على شعر المتنبي أو كتب ابن عربي
وابن منظور كلغة شارع).
في حين يرفض المدير الإداري المسؤول عن
قسم الإعارة في مكتبة الأسد هذا الاتجاه
الجديد لدى قارئ اليوم، ويصر على أن
الطلبة ذاتهم الذين يزورون مكتبة ما
حديثة، رأى أن توجهات شباب اليوم تتجسد في
اقتناء القواميس وكتب تعلم اللغات بخمسة
أيام، هم ذاتهم يأتون إلينا يومياً لقراءة
أدب إيلوار ونيرودا وفولتير ومدام بوفاري
وفيكتور هيغو وغيرهم ممن لا يمكن وصف
كتبهم بالكتب السطحية والتافهة.
ويضيف آخر (مسؤول في المكتبة) أن الذي حول
اتجاهات الشباب الحالية نحو تلك المكتبات
ذات البعد الربحي، حيث أن بعضها بدأ يبحث
عن مخرج لانعزاله بعيداً عن رغبات الشباب
فقرر بث مجموعة كبيرة من الكتب السطحية
تحت شعار (الجمهور عايز كده) غير أن
الحقيقة غير ذلك، نحن رفعنا قائمة بأسماء
كتب مهمة للسعي إلى اقتنائها بأسرع ما
يمكن وجميعها بناءً على رغبة الطلبة من
جامعات سوريا كالكتب المعنية بتفسير
المتقلبات المناخية التي يعيشها العالم
وكتب الاقتصاد المتناولة لأزمة الاقتصاد
والمال في (ول ستريت) وكتب البورصة
والأعمال والإدارة، هذا توجه الشباب
الحالي.
ربما لم يعد يمكننا اليوم الحكم على من لا
يقرأ تاريخ المنطقة أو العالم أنه سطحي،
ربما لا يجوز بأي حال من الأحوال القول
أنه لا أحد من شبابنا يهتم بما يحدث وكيف
حدث؟ الأهم هو مسايرة لغة العصر ولغة
الحياة، فمعتز شاب ناجح في عمله، ويصل
مرتبه الشهري إلى (200) ألف ليرة سوريّة،
ولا يعرف آخر كتاب قرأه أما (بلال) فهو
موظف عادي في مؤسسة أقل من عادية ومرتبه
الشهري لا يتجاوز (10.000) ليرة سوريّة
وهو قارئ، نعم ويحفظ آخر عنوان صدر عن أهم
وأحدث دور النشر في العالم.
(رشا) تحمل دكتوراه في الجغرافية في جامعة
دمشق كان آخر كتاب قرأته قبل سنتين
تقريباً يتناول (الأدب العربي) وقرأت
مقتطفات كتاب (الماغوط) وستعيش الآن السنة
الرابعة دون قراءة ولا كتيب حتى.
أظهرت دراسات أكثر تفصيلاً الحال المزرية
التي يعيشها العرب في هذا المجال، ففي
تقرير التنمية البشرية العربية للعام
(2002) معلومات تبين أن معدل الأمية بين
البالغين في العالم العربي انخفض من حوالي
(60 %) عام (1980) إلى (43 %) في عام
(1995)، ومن المتوقع أن لا تختفي الأمية
بين الذكور قبل حلول عام (2025) وبين
الإناث قبل (2040)، ومن المهم التأكيد،
هنا، أن ضعف المستوى التعليمي المصاحب
لانتشار القيم التقليدية في المجتمع يساهم
في الحفاظ على الوضع القائم دون أي
إمكانية للتغيير.
ويفسر الباحث الاجتماعي عاطف عطية أسباب
ما يعاني منه المجتمع في العالم العربي
على صعيد القراءة، طغيان عناصر غريبة على
المشهد الثقافي منها السياسي ومنها
الديني، حيث تحولت الثقافة إلى أداة
للسلطات، إضافة إلى موقع المثقفين من
الثقافة ذاتها، ومن السلطة الدينية
والسلطة السياسية، وخصوصاً ما يتعلق
بعلاقة المثقف بالمتلقي، وعزلته، والغرق
في مثالياته وبعده عن الواقع وعن هموم
ومشكلات المجتمع، وتوهمه بأنه يصنع الحدث.
ما تفصح عنه هذه الحال، يتجلى في معارض
الكتب، فهي على كثرتها لا تحظى بما يرضي
الطموح من الزائرين الذين يتصرفون،
بأكثريتهم، وكأن المعرض مكان للترويح عن
النفس والنزهة، ومنهم القلائل الذين
يحملون كتباً مشتراة، وقلة ما يطبع من
الكتاب الواحد دليل على عدم انتشاره،
ولولا الصفة الفضائحية لبعض الكتب ذات
المواضيع النقدية الدينية، أو الجنسية، أو
التي تبحث في الأسرار السياسية، لما تجاوز
أي كتاب من حيث عدد النسخ الآلاف الثلاثة،
إلا ما ندر.
لم أجد من يفسر لنا أسباب مباشرة وحقيقية
وموجزة في ضحالة القراء عند العرب لدرجة
أن مشاريع عديدة قامت بها بعض هذه البلدان
لتنشيط القراءة وتعميمها وجعلها في متناول
العامة، إن كان في مصر والجزائر وغيرها في
المغرب، أو سوريا ولبنان والكويت، مثل
كتاب الأسرة وكتاب المدى وكتاب عالم
المعرفة، والمكتبات الجوالة وغيرها، هذا
بالإضافة إلى المؤتمرات والندوات، إلا أن
ذلك كله بقي ضمن إطار الطفرات الموسمية
ولم يصل إلى لب المشكلة فصارت الكتب،
أحياناً كثيرة، في متناول الجمهور بالمجان
أو يشبه المجان، فتقتنى ولا تقرأ أو تترك
دون اهتمام، أما المؤتمرات فتعقد بحضور
أقلية من متبادلي الدعوات وذوي الاهتمام
من النخبة، وتبقى في الإطار النظري دون
الاهتمام بما هو واقعي، وبغياب كامل
للجمهور، ويبقى عدم الاهتمام في أغلب
الأحيان سيد المواقف.
قد لا أكون توصلت إلى جديد من خلال سردي
السابق، لكن الجديد الذي أود قوله إلى أنّ
المال الآن يستثمر في المشاريع الثقافية،
والتي لا تصبح ثقافية بعد الاستثمار فيها
بسبب عقلية القيمين على المشروع أحياناً،
وخوفنا الآن أن تخلو البلاد من مكتبات
حقيقية لصالح أخرى بحلة لا تقترب بأي حال
من الثقافة، وعلى المعنيين أن يعوا أهمية
استمرار وجود المكتبات كي لا نشاهد شبابنا
يطلقون النار عليها ونحن
|