«لا عمل بعد اليوم».. شعار قد يرفعه
آلاف الخريجين الجامعيين على أبواب عام
جديد، نعم، أنت وشهادتك في مهبّ الريح،
فغيّر اتجاهاتك، ودع بوصلتك تسير إلى
الجهة الأخرى.. إلى قطاع خاص العمل لدى
معظمه غير آمن.. أو بسطة في سوق شعبي.. أو
..أو.. هذه هي العروض المتاحة.. أو قد
يكون حظّك الأوفر في البيت عالة أخرى على
ذويك...
هذه أولى تباشير الحكومة مع بداية الخطة
الخمسية الحادية عشرة، التي ارتأت بناء
على بلاغها رقم 13 / ب، ضمن الشروط الواجب
توافرها في المتقدمين للحصول على وظيفة في
الدولة، ألا يقل معدّل تخرجهم العام عن 60
%، وذلك من باب الحرص على ضمان كفاءة
شاغلي الوظائف في الجهات العامة..
الإحصاءات الرسمية تفيد أنّ هناك ما قدره
1.7 مليون عاطل عن العمل في سورية، وهذا
العدد، بالنسبة إلى الخبراء المتخصصين،
قابل للازدياد إذا لم تنجح الحكومة في
حلّه، ولكن الواقع يقف إلى جانب تكهنات
الخبراء، فمؤخراً عمدت الجهات الحكومية
إلى حلّ الموضوع في مكاتب التشغيل، إلا
أنها ـ من أسف ـ باءت بالفشل، ومن ثمّ
عمدت إلى إطلاق مركز الإرشاد الوظيفي، إلا
أنها لم تقدّم الحلّ المناسب، فماذا حصد
المواطن من تحركاتها؟ لا شيء سوى شرطٍ آخر
على الخريجين الجامعيين للحصول على وظيفة،
وفي السابق تم وضع عراقيل كثيرة أمام طلاب
الشهادة الثانوية عند دخولهم الجامعات
الحكومية تفيد أنّ من يحصل على درجات
عالية في البكالوريا هو من يدخل جامعاتنا
الحكومية، لتزداد هذه العراقيل عاماً بعد
آخر، وتكون النتيجة أن أصبحت الجامعات
الحكومية حلماً يراود الطلاب وذويهم على
حدّ سواء.
إصلاح إداري
القائمون على أمر العمل اعتبروا أنّه لا
مفرّ من هذا القرار، واتجاهات العمل في
السوق السورية تتجه إلى هذا المنحى..
مديرة القوة العاملة في وزارة الشؤون
الاجتماعية والعمل، رشا حرفوش، قالت: «إنّ
البلاغ الذي صدر عن رئيس مجلس الوزراء رقم
6/ب/2753/15، تاريخ 27/5/2009، والمعدّل
بالبلاغ رقم 13/ب/5816/15 تاريخ 20/9/2010
الذي حدد أسس ومعايير الترشيح للتعيين في
الجهات العامة، جاء منسجماً مع الرؤية
المستقبلية في الخطة الخمسية العاشرة،
التي أشارت إلى ربط التخطيط الاقتصادي
بالإصلاح الإداري، والوصول إلى أعلى مستوى
من القدرات والخبرات والمهارات في مختلف
الوظائف والدوائر الحكومية، وعلى جميع
المستويات».
الجهات المعنية استفاقت، وإن متأخرة، فلم
يعد هناك مجال للتهاون، والقطاع الخاص ليس
أفضل من القطاع العام، فالكفاءة مطلوبة،
تتابع حرفوش: «..كذلك رفد القطاع العام
بالمؤهلات العليا والخبرات الكفوءة، على
اعتبار أنّ الضعف السائد حالياً في
الإنجاز الاقتصادي ما هو إلا انعكاس ذو
دلالة على ضعف المؤسسات العاملة في القطاع
الحكومي، علماً بأنّ تحديد أسس ومعايير
الترشيح لا يعني عدم تلبية طلبات الجهات
العامة من العمال، وإنما تلبية طلبها ضمن
الأسس والمعايير التي حددها البلاغ».
«ما على الرسول إلا البلاغ»..
المسألة بالغة الأهمية، والجهات المعنية
تصمّ آذانها، وكأنّ شيئاً لم يكن، فوزارة
التعليم العالي لا يوجد لديها أيّ إحصائية
تفيد بعدد الخريجين الحاصلين على معدل أقل
من 60 %، وهذا إن دلّ على شيء ـ بحسب
المراقبين للقرار ـ فإنّما يدل على وجود
عشوائية واضحة، وقرار بني على عدم وجود
معطيات أساسية لهذا الموضوع، فكيف صدر هذا
القرار؟. وزارة التعليم العليم اعتبرت أنّ
البلاغ الصادر عن مجلس الوزراء لم يتمّ
مناقشته أو إطلاع الوزارة عليه، حيث أكّد
مصدر في الوزارة أنّ ما قاموا به فقط هو
تعميمه على الجامعات كافة؛ أي على مبدأ «ما
على الرسول إلا البلاغ»، وهي بذلك اطلعت
عليه، وكبلاغ صادر عن مجلس الوزراء، يجب
عليها الالتزام والأخذ به.
وأشار المصدر إلى أنّه في الأساس معدّل
الدرجات في الجامعة أصبح 60 لنجاح الطالب،
وبالتالي لا مشكلة مع هذا البلاغ، ولدى
سؤالنا له عن القدامى قبل تحديد علامة
النجاح بـ 60، وأنّ هناك كليات نظرية لا
تحصل ربما على هذا المعدّل، بيّن المصدر
أنّ هذا يعود إلى مجلس الوزراء، وإن كان
هناك فئة كبيرة من الخريجين تتضرّر من هذا
البلاغ، فهذا شأن مجلس الوزراء.
الحكومة ربما اليوم تنشد الحلول الخيالية،
ولا تنظر إلى الواقع الحقيقي، وهذا
بالنسبة إلى المراقبين، يشكّل تحدياً
للخطة القادمة، فإذاً إلى ماذا استندت
الحكومة في قرارها الصادر؟ أم هي تسير على
مبدأ «داوها بالتي كانت هي الداء»؟
الدكتور سامر أبو عمار (خبير اقتصادي)،
قال: «الحكومة أمام مطب كبير جداً بالنسبة
إلى الخطة الخمسية الحادية عشرة، فأحد أهم
المحاور الأساسية تخفيض معدل البطالة،
وزيادة النمو، فكان موضوع تخفيض البطالة
مهم جداً، والحكومة عندما تخطو هذه الخطوة،
فكأنها تعمل ضدّ أحد أهم الخطط الصادرة
عنها، فتحديد هذا الشرط ضمن بلاغ مجلس
الوزراء له أثر دون شك في زيادة معدل
البطالة، كما أنّ البلاغ لم يلحظ ولم يفرق
في موضوع مهم يتمثل في أنّ علامة النجاح
أصبحت مؤخراً في الكليات العلمية 60 درجة،
وفي الكليات النظرية 50 درجة، ما يعني أنّ
خريجي الكليات النظرية متضرّرون أكثر من
غيرهم».
معايير جديدة للتوظيف
وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل أرجعت سبب
الخلل الحاصل في مؤسسات القطاع العام إلى
عدم اعتماد معايير للتوظيف، ما أعطى نتائج
سلبية، تقول حرفوش: «كان ينظر سابقاً إلى
القطاع الحكومي باعتباره الخزان الوحيد
الذي يتحمل مسؤولية امتصاص البطالة،
وتوفير فرص العمل للداخلين الجدد إلى سوق
العمل، ونتيجة لذلك لم يكن التوظيف مبنياً
على معايير الطلب والحسابات الاقتصادية
للجدارة والإنتاجية؛ بل غلب عليه الطابع
الاجتماعي والريعي، ما أدى إلى تراجع مبدأ
الحرفية في العمل».
وعليه تعتبر الوزارة أنّ قرار مجلس
الوزراء جاء دواءً من هذا الخلل، ولكنها
تناست آلاف الخريجين دون معدل 60 % فماذا
عن هؤلاء؟ تتابع مديرة العمل: «بلاغ رئاسة
مجلس الوزراء يعتبر مشروعاً على المستوى
الوطني تُعنى بإنجازه وتطبيقه على المستوى
العملي كافة المؤسسات العامة والجهات
الحكومية، وهو يهدف إلى رفع سوية العاملين
في القطاع العام لرفده بالعناصر المؤهلة
والقادرة على تقديم الخدمة النوعية في
مجال عملهم، وقد تتّضح أهمية هذا الموضوع
إذا ما تمّت الإشارة إلى أنّ العاملين في
هذا القطاع ليسوا مسؤولين عن تقديم خدمات،
أو منتجات لقطاعهم فقط؛ بل تمتد مسؤوليتهم
لتمثّل التقديم لكافة القطاعات».
لكنّ السؤال المطروح: هل من الممكن أن
يؤثر هذا القرار في ارتفاع معدلات البطالة
في سورية؟ تجيب رشا حرفوش: «لا يمكن الربط
بين أسباب البطالة وتحديد معايير وأسس
الترشيح إلى القطاع العام، فلا ربط منطقياً
يمكن الحديث عنه في هذا السياق، حيث أنّ
هذه المعايير ـ كما ذكرنا ـ لاختيار
الأكفأ من المسجلين، وهذا لا يعني تقليص
الطلب على الوظائف الشاغرة وإنّما تحديد
فئة العرض من المسجلين الطالبين للعمل،
وهذا لا يعتبر سبباً من أسباب البطالة».
اختراقات رهيبة
وزارة الشؤون اعتبرت أنّ هذا البلاغ دافع
للحصول على الكفاءات، لكن هل أصابت؟ يتابع
الدكتور أبو عمار: «عندما ترى وزارة
الشؤون الاجتماعية أن هذا البلاغ يسهم في
رفع كفاءة العاملين في القطاع العام ورفده
بالكوادر المؤهلة، فهذا الرأي عليه تحفظات؛
منها: هل الحكومة توظف كلّ أصحاب الشهادات
قبل الحديث عن المعدل؟ فاليوم هناك
اختراقات رهيبة جداً على صعيد الإدارة،
وبشكل خاص إدارة المصارف، ومؤسسات التأمين،
وإدارات القطاع الإنتاجي، حيث نرى، على
سبيل المثال، حقوقيين يديرون مصرفاً ما،
وقائمين على رأس منظّمة اقتصادية، في حين
أنّ مكانهم هو ميدان القضاء والقانون
والتشريع، فأساسيات العمل الإداري غير
موجودة لديه، وهذا الموضوع كان يجب على
الحكومة أن تتعاطى معه بطريقة مختلفة؛
بطريقة الراعي؛ أي أن تأخذ قرارات
استراتيجية، حيث تعمل على تطوير الكوادر
الإدارية الموجودة لديها، يضاف إلى ذلك
تطوير برامجها بالنسبة إلى التدريب
والتأهيل في القطاع العام، ففي إحصائية
سابقة وصل حجم الإنفاق على التدريب
والتأهيل إلى حدود 5-6 % في المنظّمات
التابعة إلى القطاع الخاص، في حين لم يتعدّ
في القطاع العام 1 %، وهذا يسجّل خللاً
كبيراً جداً، حتى أنّ الحكومة بعد أن تنفق
على قطاع التدريب والتأهيل لا تشغل من
تدربوا وتأهلوا أنفسهم».
ماذا عن الخريجين القدامى؟
الخبير الاقتصادي اعتبر أنّ تعاطي الحكومة
مع قرارات مثل هذه «تشعرنا بأنّ هذه
القرارات تصدر بشكل غير واعٍ» وغير مدروس،
وبشيء من التفصيل يحذّر الخبير الاقتصادي
من مغبّة قرارٍ لم يحسب له حساب، وهذا
مؤشر لقرارات عشوائية أخرى ستصدر، ولكن
ماذا عن الخريجين قبل سنوات عدة، الذين لم
يحظوا بوظيفة حتى تاريخه؟ يقول أبو عمار:
إن معدل البطالة يعتبر مؤشراً من المؤشرات
الكلية، كمؤشر التشغيل، فمثل هذه المؤشرات
الكلية يجب العمل عليها باسترايجيات وليس
بقرارات، فعندما تقول الحكومة إنّها تريد
فقط الحاصلين على معدل 60 % لتوظفهم، هنا
يوضع تحفّظ ايضاً، فمثلاً خريجو الجامعات
منذ عشر سنوات، والذين معدّلهم أقل من 60
% قد يكونون أفضل بكثير من الحاصلين على
معدل 60 %، وهؤلاء مغبونون ولم يضعوا في
حساباتهم أن تحدّد الحكومة مثل هذا الشرط
للتوظيف في قطاعاتها، وأن تطردهم من ميدان
العمل لديها».
البلاغ يزيد نسبة البطالة
ازداد إجمالي طلاب التعليم العالي من
259130 عام 2002 ليبلغ 600313 عام 2009،
وبلغ عدد الطلاب الذين تمّ استيعابهم (المستجدين)
للعام الدراسي 2009-2010 في الجامعات ما
يزيد على 128 ألف طالب وطالبة، وهذا يعني
أنّ هناك أعداداً كبيرة من الخريجين، ولكن
هل أخطأت الحكومة في قرارها هذا؟ يقول
الدكتور أبو عمار: «هذا القرار صدر بشكل
اعتباطي، وفي رأيي الشخصي أنّ هذه
القرارات يجب أن تأخذ منحى استراتيجياً،
ولا تأخذ النقطة في حدّ ذاتها والعمل
عليها بشكل كلي، وأن يوضع لها خطط كاملة،
ومن ثمّ تصدر قرارات على كلّ نقطة من
النقاط، بحيث يتمّ تطوير الداخلين إلى
القطاع العام، وتطوير القائمين على رأس
عملهم، فكان من الأجدر لحظ تشغيل الرجل
المناسب في المكان المناسب قبل الحديث عن
معدّلات التخرج، فعلى سبيل المثال، نرى
اليوم مهندساً يعمل مدير مصرف، وحقوقياً
يعمل مدير مؤسسة إنتاجية، وفي هذه الحالات
لا يهمّهم معدّل التخرج، بينما من الممكن
أن نرى خريج كلية اقتصاد وحاصل على معدل
50 % على علم ومعرفة أكثر ممّن هم حاصلون
على معدل 60 % وما فوق، وهذا موجود كثيراً
في القطاع الحكومي، فالنظر إلى مواضيع
التشغيل وخفض معدلات البطالة، في ما لو
ظهرت في الخطة الخمسية الحادية عشرة، كأحد
المحاور الأساسية أو الاستراتجيات، تتوخى
الدولة من خلالها ألا تصل إلى معدلات من
البطالة أخطر ممّا كانت سابقاً، ففي رأيي،
مع هذا القرار الاعتباطي سنشاهد زيادة في
معدّلات البطالة، أو تهجير القادرين على
العاملين».
إلغاء العناصر الوظيفية والشخصية..
مؤشّر للعمل جديد، وبالتالي دوماً
السلبيات تسبق الإيجابيات، وحصاد القرار
ماذا سيعطي من ثمار؟.. يقول الخبير
الاقتصادي: «حجم عامل المعدّل، ودوره في
تحديد كفاءة الشخص في قرار مجلس الوزراء،
جعل من هذا العامل (المعدّل) عنصراً ماصاً،
في حين أنّ هناك مواصفاتٍ أخرى غير
المعدّل، فليس من الضروري أن نعمل من
المعدّل شرطاً أساسياً للتشغيل في القطاع
العام، فهناك مواصفات أخرى، كالذكاء
الفطري والاصطناعي، والقدرة على العمل
لفترات طويلة، والإبداع، والاكتساب،
والمهارة، وغيرها، عوامل جميعها تضيف إلى
مواصفات الموظف أكثر، فهذا الشخص أكفأ
ممّن هو حاصل على معدّل 60 %، وبذلك يكون
القرار جعل هذا العامل عنصراً ماصاً،
وألغى كلّ العناصر الوظيفية والشخصية التي
من الممكن أن يكون لها دور في هذا الموضوع».
نظرة قاصرة..
ويتابع الدكتور أبو عمار: «هناك نقطة
مهمّة؛ من يحصلون على معدّلات مرتفعة إمّا
أن يسافر خارج البلد، وإمّا أن يستقطبه
ويجذبه القطاع الخاص، لأنّه يسجل رواتب
أعلى من رواتب القطاع العام، فلو كان
الأخير يمنح رواتب عالية، كما يمنحها
القطاع الخاص، كان من الممكن أن تكون
المنافسة واردة، فاليوم هي غير واردة على
الإطلاق».
التعميم ترك الباب مفتوحاً لجدلٍ واسع،
ووزارة الشؤون وقفت مع القرار وتبنّته
وتناست حقّ العامل، فماذا يعني ذلك؟ يقول
الدكتور سامر أبو عمار: «كان يجب على
الوزارة أن تقف إمّا موقف المحايد وإما
المدافع عن حقوق العاملين، وقضية التشغيل
في البلد، والكارثة الكبرى أنّه من الممكن
أن تكون الوزارة هي المقترحة لهذا البلاغ،
فإذا كانت الوزارة تنظر إلى سوق العمل
بهذه النظرة القاصرة، فهذا الكلام مؤسف
جداً». |