بالنص
الذي يتبناه عقل رسمي انتصاري ساد منذ نيف
وخمسين عاما ورأى في نتائج كل معركة خاضها
انتصارا له، بغض النظر عن ما ترتب عليها
حقا في الواقع، لا يتردد كثير من عرب
زماننا في القول: إن امريكا هزمت من
العراق. أما الأسباب التي تؤيد رأيهم فهي،
بوجه عام، التالية:
- أن امريكا فشلت في إقامة 'نظام شرق
أوسطي جديد' كانت تعد نفسها بإقامته،
وتتوعد بمده إلى بقية مناطق المشرق العربي
وجواره، انطلاقا من احتلال العراق، الذي
سيلعب دورا حاسما في فرض أوضاع جديدة على
المنطقة، قال رأي إنها ستكون نسخة معدلة
من اتفاقية سايكس/بيكو. وقال رأي آخر إنها
ستقوض الدول التي أنشأتها اتفاقية أوائل
القرن الماضي البريطانية / الفرنسية،
وستستبدلها بكيانات مختلفة عنها يرجح أن
تكون ذات صبغة طائفية غالبة، سيفضي قيامها
إلى تفكيك الدول والمجتمعات العربية
الراهنة، وصولا إلى تفكيك المجتمع
الإيراني، الذي يسيطر عليه عنصر فارسي لا
يشكل غير أقل بقليل من قرابة أربعين
بالمائة من مواطنيه.
- أنها سلكت إلى هدفها سبيلا عينته وزير
خارجيتها رايس بوضوح هو 'الفوضى الخلاقة'،
وهذه لم تقع في أي مكان من منطقتنا
العربية، التي نجحت في الحفاظ على أوضاعها
القائمة بفضل نظم سلطوية قوية تتكفل
بحمايتها. فشلت امريكا في إحداث الفوضى،
التي اعتبرتها 'خلاقة'، وكانت واثقة من
أنها ستتكرر نجاحها في إسقاط العراق،
وستخضع البلدان العربية الأخرى بوسائل
تمزج بين السياسة والضغط العسكري. إلا أن
هذا لم يحدث، وسقطت امريكا نفسها في أسر
المقاومة العراقية، التي اضطرتها إلى
اتخاذ موقف دفاعي وحالت دون خروجها إلى
محيط العراق القريب، شرقا وغربا، فكان
فشلها هزيمة لخططها وبرامجها، ووجدت نفسها
مجبرة على التراجع عن ما كانت تريده، بعد
أن عصفت الفوضى بقواتها ووجودها.
- ان امريكا كانت تريد البقاء في العراق
لأمد طويل، كما قال قادتها عند بدء الغزو.
وها هي تتعهد بإنهاء دورها العسكري فيه
نهاية شهر آب/اغسطس الجاري، وتعد بأن لا
يبقى لها أي وجود عسكري فيه غير ذاك
الضروري لتدريب جيشه، وهو يقتصر على خمسين
ألف جندي ينتشرون في قواعد صحراوية وخارج
المدن، تمهيدا لانسحابهم الكامل منه نهاية
عام 2011.
- لم تنجح امريكا في إقامة نظام شرق أوسطي
جديد. هذا صحيح. لكنها نجحت في زعزعة نظم
الشرق الأوسط جميعها، وخاصة منها النظام
العربي، الذي لم يعد فاعلا بأي معيار، على
فرض أنه ما زال موجودا. من يلقي نظرة على
الواقعين الإقليمي والعربي الراهنين، سيجد
أنه لم يعد للعرب أي حضور أو دور فاعل في
الأول، وأنهم تحولوا من جهة تدير مشكلاتها
من خلال محور مصري/سوري/سعودي، إلى جهة
تتراكم مشكلاتها دون أن تجد طريقة
لإدارتها، بسبب تلاشي المحور السابق
وانعدام الآليات اللازمة لتنظيم علاقاتها،
مما يجعل التعاطي مع هذه المشكلات،
المتفاقمة، جزئيا ووقتيا أكثر فأكثر،
ويؤدي إلى تراجع قدرة العرب على ضبط
خلافاتهم من حالة لأخرى، وعلى الحيلولة
دون تكرار تفجرها وتنقلها بين بلدانهم.
صحيح أن امريكا لم تنجح في إقامة نظام شرق
أوسطي جديد، لكنها نجحت في تقويض ما كان
موجودا من أسس للتوافق العربي، وأفلحت في
إفشال الإدارة المشتركة لخلافات العرب،
التي اكتسبت سمات جديدة بعد سقوط العراق
وأضيفت إليها خلافات جديدة تتبدى في تهافت
دول عربية وإقليمية على احتلال مواقع
مؤثرة داخل العراق، وفي تصارعها على مراكز
وقوى تتيح ترجيح مصالحها على مصالح غيرها،
الأمر الذي يبطل أكثر فأكثر أي تعاون قومي
أو إقليمي من شأنه إقامة ظروف آمنه
تتطلبها عملية إعادة إنتاج الدولة
العراقية السيدة والمستقلة، ويجعل لغياب
هذه الدولة أو تغييبها فعل الكارثة
بالنسبة إلى المشرق وجواره، مجتمعات
ودولا.
والآن: أليس التصارع في العراق وعليه،
ورؤية العراق بدلالة مصالح النظم
المتناقضة المتضاربة، دليلا على انهيار ما
كان قائما قبل سقوط بغداد من 'نظام' يدير
توازنات وتناقضات العرب، وخلو العالم
العربي من قوى تستطيع منعه من السقوط في
فوضى تعد الشرط اللازم لقيام نظام
إقليمي/دولي يمعن في تقويض وجوده الموحد
ويحول دون استعادة دولته، علما بأنه
امريكي/إسرائيلي/إيراني/تركي هو نقلة
نوعية إلى زمن ما بعد العرب. لم تنجح
امريكا في تحقيق الحد الأعلى مما كانت
تريده، أي النظام الشرق أوسطي الجديد،
لكنها نجحت في تقييد وشطب النظام العربي،
وأحدثت فراغا مخيفا في المنطقة العربية
تملؤه بأوضاع وقوى تحقق حدا أدنى مما
أرادته: الفراغ والفوضى، وأفلحت في دفع
العرب نحو حال يعجزون معها عن إدارة
أزماتهم المتكاثرة، التي غدت أكثر صعوبة
وتعقيدا وخطورة من أي يوم مضى من أيام
تاريخهم الحديث.
- هل صحيح أن امريكا فشلت في زرع المنطقة
بالفوضى، خلاقة كانت أم غير خلاقة؟
يجب أن يكون المرء أعمى كي لا يرى علامات
الفوضى الضاربة في كل مكان من ديار العرب
وجوارها. إذا كانت امريكا قد فشلت في
دفعنا إلى فوضى عامة، أضيفت إلى ما كان
لدينا من فوضى، لماذا تغلب أطراف السياسة
العراقية مصالح حزبية وطائفية وشخصية على
أية مصلحة وطنية جامعة؟
ولماذا لا تتفق على تشكيل حكومة، أو حتى
على تفسير الدستور، وتسمح بتحول نشاطها
وعلاقاتها إلى ميدان تسرح وتمرح فيه قوى
عربية وإقليمية ودولية متناقضة، يمعن
دورها المتزايد في تقويض أية إرادة عراقية
مشتركة، ويبطل الحسابات والاعتبارات
الجامعة والعليا ويحل محلها حسابات
واعتبارات دنيا، تمزيقية ونافية للقواسم
المشتركة، تحتل أكثر فأكثر عقول وممارسات
ساسة العراق، الذي يبدو وكأنه لم يعد بلدا
موحدا ويمكن أن ينفرط إلى كيانات طائفية
ترتبط بجهات خارجية متناحرة، سيحول قيامها
العراق إلى ميدان تختبر فيه امريكا قدرتها
على إقامة نظام طوائف ومذاهب وإثنيات،
سيرث الدول والمجتمعات العربية الراهنة.
لم تنجح امريكا في بث الفوضى داخل العراق
وحده، بل زرعتها بذورها أيضا في الدول
العربية والإقليمية جميعها، بما فيها
تركيا، ناهيك عن إيران، حتى ليصعب تقديم
رؤية متفائلة حول مستقبل ومصير أية دولة
عربية أو أي مجتمع عربي، بسبب الفوضى
المنتشرة في كل مكان، التي تصير السيطرة
عليها عصية وصعبة أكثر فأكثر، وبدأت
تستنزف بالفعل قدرات الدول القائمة،
وتتحدى أساليبها وآليات عملها الداخلية
والخارجية.
- لن يبقى في العراق، بعد نهاية شهر آب/اغسطس
الحالي، غير خمسين ألف جندي امريكي. يسمي
الامريكيون هذا انسحابا من العراق.
ويعتبره خصوم امريكا بدورهم 'خروجا منه'.
يتجاهل هؤلاء الخصوم أن هذا الوجود أكبر
من مثيله في كل من كوريا الجنوبية
واليابان وأوروبا، وأنه وجود كبير ومؤثر
ورادع، يعني أن امريكا لم تنسحب من
العراق. يتجاهل هؤلاء أيضا تصريحات رسمية
تعلن أن امريكا ستبقى إلى فترة غير محدودة
في بلاد الرافدين، وأن قواتها هناك مزودة
بقوة تمكنها من ردع إيران، والتدخل
بفاعلية في أي صراع.
هنا أيضا، يجب أن يكون المرء ساذجا كي
يعتقد أن وجود خمسين ألف جندي امريكي في
العراق يجسد رغبة واشنطن في الانسحاب منه،
وأنها خرجت بالتالي مهزومة من الصراع
عليه، رغم أنها أسقطت نظامه واحتلته ونشرت
فيه جيشا يفوق عدده عدد جيشها في اليابان
وكوريا، الذي يضمن مصالحها وولاء هاتين
الدولتين المتقدمتين جدا والقويتين، ويتيح
لها ردع دولة مثل الصين أين من قوتها قوة
العرب وإيران المحدودة!
لم تحقق امريكا كل ما قالت إنها تريد
تحقيقه في العراق وجواره. لكن العراق كان
مجرد بداية على طريق طويل. مع ذلك، يصعب
على من يراقب الحال العربية والإقليمية أن
يتجاهل ما تشهده من تدهور وفوضى وعجز،
وتنتجه من مخاطر على دول ومجتمعات العرب،
التي تنخرط أكثر فأكثر في وضع ذاتي منجب
للضعف والعجز أو تقترب أكثر فأكثر من وضع
كهذا. كان العراق بداية دفعت الوضع العربي
إلى حال من الضعف والتفكك تجعله هامشيا
بصورة متزايدة، بينما يتصاعد نظام إقليمي
جديد ليس العرب طرفا فاعلا فيه، يحاول كل
طرف من أطرافه إنقاذ نفسه على حسابهم، بعد
أن جعلهم سقوط العراق رجل العالم المريض
بامتياز!
بدل الركون إلى ما يقال عن فشل امريكا
وهزيمتها، يحسن بنا إقامة أرضية ذاتية
صلبة تتيح لنا إفشالها وهزيمتها بالفعل لا
بالكلام. إلى أن نفعل ذلك، نرجو ألله أن
يلطف بنا، ويجنبنا الأسوأ، الآتي حتما!
' كاتب وسياسي من سورية |