لم يعد
وليد جنبلاط يستفزّ مسيحيّي 14 آذار. في
كل ما قاله وما يقوله الزعيم الدرزي، منذ
الثاني من آب من العام 2009، يُواجه من
المعسكر الآذاري بأعصاب باردة. تتفاوت
«اللهجات» داخل هذا المعسكر حيال الخطاب
الجنبلاطي الآخذ في التصاعد وفي الجنوح
نحو قطع جسور التواصل مع حلفاء الأمس، لكن
أحداً من هؤلاء غير قادر على إعلان
القطيعة السياسية نهائياً مع المختارة.
تتعدّد الأسباب والنتيجة واحدة...
يتجنّب دوماً رئيس الهيئة التنفيذية في
«القوات اللبنانية» سمير جعجع الردّ على
رئيس «اللقاء الديموقراطي». غالباً ما
يردّد عبارة «بيمون وليد بيك»، ويعترف بأن
لجنبلاط «وضعاً خاصاً» رافضاً «الحديث عنه
الآن». تتجاوب كوادر «القوات» وطقمها
السياسي مع تعليمات «الحكيم»، فلا يخرج
الى العلن أي موقف يستشمّ منه رداً
انفعالياً على «البيك»، حتى عندما
«يستغرب» الأخير «التطابق بين سمير جعجع
وغابي أشكينازي حيال التوقعات للداخل
اللبناني» أو عندما يذكّره كلام «الحكيم»
بعامي 1982 و1983.
قبل ثلاثة أيام، وللمرة الأولى منذ انكسار
الجرّة بين الزعيم الدرزي ومسيحيي 14
آذار، أطلق النائب «القواتي» أنطوان زهرا
موقفاً حاداً من الحليف السابق، معتبراً
أنه «لم يعدّ في الوسط» وبأنه «أصبح في
فريق 8 آذار». يجزم المقرّبون من معراب «ان
موقف جنبلاط في أيار من العام 2005 بعد
زيارته ستريدا جعجع، عندما اعتبر ان خروج
جعجع من السجن سيشكّل إسهاماً في المصالحة
الوطنية، هذا الموقف كان مجرد «دور
تمثيلي» فرض على جنبلاط تأديته من ضمن
مشهد عام وليس عن قناعة منه».
لاحقاً أبرزت التطورات صحة ما يقوله هؤلاء
اليوم. التواصل الشخصي المباشر بين «البيك»
و«الحكيم» قارب خط الصفر باستثناء لقاءات
14 آذار الجماعية. أكثر من ذلك، وفي عزّ
«ثورة الأرز» كان يتناهى الى مسامع سمير
جعجع القلق الجنبلاطي من الدور المتنامي
لـ«الحكيم» ومن تأثيره على الجمهور
المسيحي، خاصة في جبل لبنان الجنوبي من
خلال «خطابه الغرائزي والفئوي». ولم يتأخر
الزعيم الدرزي في تحديد موقفه الحقيقي من
حليفه المسيحي السابق «جعجع يكشف نفسه
يوماً بعد آخر... ولم يتعلّم من تجربة
الماضي».
داخل «حزب الكتائب» لا يقصّر النائب سامي
الجميل في الرد على القصف الجنبلاطي،
مستعيناً بقاموس خاص لا يبدو أنه يشكّل
مرجعاً لكل الكتائبيين «جنبلاط فقد
مصداقيته»، «مزاجيته تثير الخوف ويقوم
بدور غير طبيعي»، «مواقفه غير لائقة...
وسببها الخوف من السلاح».
منذ ما قبل 2 آب، توقّع كتائبيون انتهاء
«الزواج الأبيض» بين المختارة ومسيحيّي 14
آذار. اليوم، داخل البيت المركزي في
الصيفي يسمع كلام من نوع «لم تعد المسألة
إذا خرج جنبلاط كلياً من فريق 14 آذار أو
لم يفعل». أصلاً، ليس لـ14 آذار مصلحة في
بقاء جنبلاط في صفوفها، يقول المستشار
السياسي للرئيس أمين الجميل سجعان قزي،
مستشهدا باستقبال جنبلاط لوفد فلسطيني
أراضي 48 مؤخرا.
الأمانة العامة لقوى 14 آذار مسألة أخرى.
منسّق الأمانة العامة فارس سعيد له
«ترجمته» الخاصة للحراك الجنبلاطي
الإنقلابي «لا أعتقد ان ما يقوله جنبلاط
هو الذي يفكّر فيه. ما يبتغيه هو استكمال
استدارته باتجاه سوريا و«حزب الله»، ومنذ
2 آب لم يأت بأي جديد». لكن «أخطر ما قاله
جنبلاط في طلّته الأخيرة»، يقول سعيد، هو
القول بأنه مع المحكمة ولكن... نحن في 14
آذار مع المحكمة والعدالة من دون «لكن».
إذا كانت اسرئيل هي المسؤولة عن اغتيال
الرئيس رفيق الحريري فلتحاكم، وإذا كانت
سوريا فلتحاكم، وإذا كان «حزب الله»
فليحاكم... مع المحكمة الدولية لا يمكن ان
يكون هناك نصف حقيقة».
العلاقة اليوم مقطوعة تماماً بين جنبلاط
وفارس سعيد. بعض أعضاء الأمانة العامة
يواظبون على لقائه تحت ستار التواصل
الشخصي. يقول سعيد «الجميع يكنّ المحبة
والاحترام للنائب جنبلاط، لكن لا يعنينا
ما يقوله على المستوى السياسي. وما زلنا
على تفهّمنا لـ«الضرورات الأمنية» التي
تفرض على «البيك» الاستدارة نحو سوريا
و«حزب الله» لحماية نفسه وعائلته وطائفته
ومنطقته، والدليل هو خوفه الكبير من 7
أيار جديد».
مع ذلك، فإن فريقاً من الآذاريين لا يزال
يراهن على «ما سيفعله جنبلاط لاحقاً وليس
ما يقوله اليوم». يقدّمون نموذجاً عن
الإشارات الجنبلاطية «الايحائية» بالعودة
الى موقف وزراء «اللقاء الديموقراطي» في
مجلس الوزراء في حزيران الماضي خلال جلسة
مناقشة العقوبات على ايران، حيث أدى موقف
هؤلاء الى إرساء معادلة التعادل السلبي،
وبالتالي تبنّي الدولة اللبنانية خيار
الامتناع عن التصويت على العقوبات، «وهو
خيار سياسي بالدرجة الأولى».
هكذا يراهن الآذاريون على «صحوة» متوقّعة
للمختارة تعيد الأمور الى نصابها وفق
التصوّر الآتي: «لقد أطلق «حزب الله»
معركة إسقاط المحكمة بالمباشر، ظناً منه
أنه قادر على إسقاطها. والسيّد حسن
نصرالله وفي إطلالاته المنتظمة، وآخرها
ليل أمس، يقدّم مواداً حسيّة لتهيئة هذه
الأجواء. وبالتالي فإن المسألة لم تعد
قراراً ظنياً بل تصويباً مباشراً لإسقاط
المحكمة. والسؤال الكبير هل سينضم جنبلاط
الى هذا المشروع أم سيكتفي بالقول «مع
المحكمة ولكن...»؟.
في تقدير هؤلاء «ان وقوع المحكمة تحت
الفصل السابع وحتمية الوصول الى الحقيقة
في اغتيال الحريري سيفرضان على الزعيم
الدرزي السير في خيار عدم إسقاط المحكمة».
يقول فارس سعيد «إذا انضم جنبلاط للفريق
المنادي بإسقاط المحكمة تحت ضغط التهويل
من قبل «حزب الله» بورقة العدالة أو السلم
الأهلي، فسيفقد جزءاً كبيراً من زعامته،
وسيتحوّل الى شخصية هامشية في الحياة
السياسية اللبنانية». ويضيف قائلاً «نحن
لا نزعل من وليد جنبلاط بل نزعل عليه،
ونحن لا نخاف منه بل نخاف عليه»
في الشكل، لا يتوقف حلفاء جنبلاط كثيراً
عند مشهد عودته من لقاء مع الرئيس السوري
بشار الأسد، ليعيد بعد ساعات دوزنة
خياراته السياسية الكبرى من كليمنصو أمام
وسائل الاعلام، وصولاً الى الدخول في عمق
تفاصيل حسّاسة تطال «النوعية والكمية» في
المؤسسات الأمنية، والدعوة الى إلغاء
«دورة الدرك» التي شهدت، وللمرة الأولى
منذ عهد الطائف، تقديم طلبات انتساب من
جانب المسيحيين فاقت عدد الطلبات المقدمة
من المسلمين . يقول سجعان قزي «الكلام
الذي قاله جنبلاط بعد اجتماعه الأخير
بالرئيس الأسد حول المحكمة هو نفسه الذي
قاله قبل الزيارة والقائم على أساس أنه مع
المحكمة وضد تسييسها، وكأنه مرتاح إلى
وجهة الاتهامات الأخيرة أو أنه يريد
الاحتفاظ بخط الرجعة مع آل الحريري، فيما
يريد «حزب الله» إسقاط المحكمة واستبدالها
بتحقيق لبناني».
في النظرة الكتائبية، إلى المختارة تحضر
المقارنة مع كمال جنبلاط. يوضح قزي «حصل
تعاطف بين «الكتائب» ووليد جنبلاط في
العام 2005، وهذا ما لم يحصل مع كمال
جنبلاط. لكننا نعرف أن هذا الأخير، ومنذ
اليوم الأول لحياته السياسية وحتى لحظة
استشهاده، لم يغيّر مبادئه وثوابته، ولم
ينقلب على حلفائه ولم يناور ولم يخسر
طائفته بل حاز على دعمها وثقتها، ودفع ثمن
ثباته في مواقفه».
لا ينسى الكتائبيون ان جنبلاط كان أول من
اتهم «حزب الله» باغتيال رفيق الحريري،
حين أعلن حرفياً في 28 كانون الأول من
العام 2006 «عندما أتت بعض المعلومات عن
أن السيارة التي استهدفت الوزير مروان
حمادة فخّخت في الضاحية، أنا طلبت من
مروان أن ينسى الأمر لأجل المقاومة، كان
لديّ غشاوة على عينيّ وسقطت نهائياً عند
اغتيال جبران تويني، وحين أعلن نصر الله
تضامنه مع القيادة السورية قلت كفى. ونعم،
أنا أتهمهم بأنهم وراء بعض الاغتيالات إن
لم يكن كلها».
لا تبتعد «القوات اللبنانية» كثيراً عن
دائرة التفهّم الآذاري للتكتيك الجنبلاطي.
نواب ووزراء «القوات» لا يتفاعلون مع أي
أسئلة تحاول رسم المسافة الفاصلة بين
معراب والمختارة. كلام زهرا عن استقرار «البيك»
في حضن 8 آذار، بدا «فلتة شوط» وليس صفحة
جديدة في قاموس التعاطي مع الحليف الدرزي
السابق. يقول منسّق بيروت والنقابات في
«القوات» عماد واكيم «نتفهّم وضع جنبلاط
ونحن على قناعة تامة بأن أحداث 7 ايار هي
التي قادت جنبلاط الى اتخاذ جملة هذه
المواقف». وعلى أي أساس تتعاطى «القوات»
اليوم مع جنبلاط كحليف أو كخصم سياسي؟
يجيب واكيم «يعكس جنبلاط في المرحلة
الحالية مواقف الثامن آذار، لكن هناك
رأياً عاماً ضمن جمهوره غير مؤيد لهذه
المواقف، وهو شخصياً اعترف بذلك. من
جهتنا، نضع جنبلاط اليوم «على جنب»،
فنضالنا الوطني مستمر معه أو من دونه».
|