تختصر
مراجع سياسية مختصة ما قامت به الولايات
المتحدة الاميركية من قيادة التصويت على
قرار فرض عقوبات دولية على ايران بأنه
الخطوة الاولى على طريق عودة الادارة
الاميركية الى الاضطلاع بدور حاسم في
الشرق الاوسط من البوابة الايرانية.
ولعلها الخطوة الاهم منذ الاندفاعة
الاميركية الى الشرق الاوسط وشرق آسيا بعد
احداث 11 ايلول وتداعياتها على المنطقة،
في اطار مكافحة "محور الشر" الذي اطلقه
الرئيس الاميركي السابق جورج بوش، ومن ثم
الدخول الى افغانستان والهجوم على العراق
على خلفية الذريعة الاميركية بوجود اسلحة
دمار شامل، وصولا الى تقرير هاميلتون-
بيكر في نهاية عام 2006 حول العراق.
منذ ذلك اليوم الذي صدر فيه هذا التقرير،
ابتعدت واشنطن عن مسرح الحدث الاقليمي قبل
انتهاء ولاية بوش، وحتى ما بعد انطلاقة
عهد الرئيس باراك اوباما. فكان تدخلها
هزيلا في الملف اللبناني الذي تسارعت
التطورات فيه منذ عامين بعد عودة العلاقات
الديبلوماسية مع سوريا، وانفتاح الحكم
مجددا على دمشق، عبر لقاءات رئيس
الجمهورية ميشال سليمان، وبالاخص علاقة
رئيس الحكومة سعد الحريري بالنظام السوري.
وكذلك الامر بالنسبة الى تطورات الملف
الفلسطيني - السوري التي سعت الى تطويقه
عبر حلول ومشاريع لم تنضج حتى الآن،
مكتفية بتأييد حل الدولتين، في وقت تستعد
لترحيل جيوشها من العراق مع حلول الخريف.
من هنا يتابع خبراء وباحثون في الاوساط
اللبنانية المختصة باهتمام الحدث الدولي،
اذ فيما كان لبنان يتابع في ايار، شهر
القرارات الدولية، وبحرص بالغ انتخاباته
البلدية، وفيما كان يتحدث بعض مسؤوليه
الكبار بتفاؤل مطلق عن حل سلمي لأزمة
الملف النووي الايراني، مرجحين عدم حصول
عقوبات قبل نهاية الصيف، كانت الدول
الكبرى تحضر لقرار جوهري يفتتح مرحلة
مصيرية تدخل المنطقة في مهب ملفات مفتوحة
على احتمالات خطرة.
استفاقة اميركية
وتتعامل هذه الاوساط مع ما حصل من تطور
دولي، بصفته انتاجا اميركيا صافيا، تمثل
في اجماع الدول الخمس الدائمة العضوية في
مجلس الامن، بما يعد نجاحا اميركيا في
استيعاب موقفَيْ موسكو وبيجينغ عبر تدخل
اميركي مباشر مع الرئيس الروسي دميتري
ميدفيديف، واوروبي مع رئيس الوزراء
فلاديمير بوتين، وخط عربي مفتوح مع الصين
يعكس رغبة عربية دفينة في التخلص من
العقدة الايرانية. وهذا يؤشر، بحسب هذه
الاوساط، الى استفاقة الديبلوماسية
الاميركية ونجاح فريق في الادارة كان يضغط
منذ اشهر على اوباما لاتخاذ مبادرة ما ايا
تكن طبيعتها، سلما ام حربا ام عقوبات، من
اجل الخروج من الدوامة التي دخلت فيها
واشنطن قبل نحو 4 اعوام.
ولا يمكن هذه الانعطافة الاميركية الا ان
تكون شاملة بالمعنى الاقليمي، لان الملف
الايراني لا يمكن عزله اطلاقا عن تطورات
ملفي لبنان وفلسطين، وحكماً العراق،
كساحات مفتوحة لتلقف ارتدادات التطور
الايراني. ولا يمكن في هذا الاطار الا
التوقف عند حادثة "اسطول الحرية" الذي
تعرض للهجوم الاسرائيلي، بعدما تحولت
الانظار من غزة الى طهران. وثمة اعتقاد
بدأ تداوله في اكثر من منتدى باعتبار ما
جرى مقصودا لصرف الانتباه عن اروقة مجلس
الامن حيث كان يصاغ القرار الدولي وتركيز
الاهتمام على غزة من اجل تمرير الوقت
الضائع. ويأتي هذا الحادث في اطار صياغة
موقف متكامل يبدأ بالضغط على ايران وسحب
ورقة فلسطين منها ومن حلفائها في لبنان
وتحويلها الى طرف سني فاعل في المنطقة هو
تركيا التي حازت رصيد اعجاب متزايدا في
الشارع العربي والفلسطيني على السواء. وهو
الامر الذي يترك اثره على وضع ايران من
دون ان يخلّ بالتوازنات الطائفية في
الشوارع العربية ذات الغالبية السنية.
تأرجح سوري
من هنا يقف النظام السوري، بحسب خلاصات
ينقلها زوار العاصمة السورية اخيرا والذين
يسمعون كلاما متنوعا حول الموقف السوري من
التطورات العربية، متأرجحا بين تركيا
وايران، مع رجحان كفة ميزانه قليلا نحو
انقرة في الآونة الاخيرة.
ويساهم الاقتراب من تركيا في تشكيل مظلة
اقليمية - دولية فوق النظام السوري، في
مرحلة دقيقة، فللنظام السوري اليوم
اولويتان: حماية بقائه واستعادة ورقة
لبنان. وفي الاحتماء بتركيا راهنا اوراق
مربحة، على ابواب التضييق على ايران وقبل
وقت قليل من صدور القرار الظني في المحكمة
الدولية الخاصة بلبنان. وقد تكون من
المرات القليلة التي يحكى فيها عن حماية
النظام السوري بصراحة، وهو امر يعرف "حزب
الله"، وقبله ايران، معناه جيداً، فسوريا
التي تحاول جاهدة اعادة الامور الى
مجاريها مع مصر والسعودية، تحاول
الاستعانة بتركيا لتخفيف الضغوط الدولية
واعادة تثبيت مواقعها في لبنان على قاعدة
لجم أي تدهور فيه. ولذا جرت نقاشات طويلة
بين مسؤولين سوريين رفيعين ومحسوبين على
"تيار المستقبل" حول مستقبل العلاقة بين
البلدين وعناوين العلاقة السياسية وليست
الشخصية، والتي تركز على التنسيق في
القضايا الخارجية. وتشعب الحديث كذلك بين
مسؤولين سوريين مع اكثر من مسؤول لبناني
عشية صدور العقوبات الدولية حول تفهم
سوريا و"غضها الطرف" عن تأييد رئيس
الحكومة سعد الحريري ومعه النائب وليد
جنبلاط الامتناع عن التصويت في مجلس الامن.
وفيما جرى تطمين الحريري بعدم التعاطي
شكلا ومضمونا بموقف لبنان من التصويت، جرى
ايضا ابلاغ حلفاء سوريا ولا سيما "حزب
الله" بمنع التصعيد النوعي والاكتفاء
بتسجيل الموقف المبدئي، والحصول على اصوات
وزراء رئيس الجمهورية كثقل معنوي. وقد
ظهرت مفاعيل هذا التدخل، مقارنة مع جلسة
مجلس الوزراء التي عقدت يوم اغتيال النائب
جبران تويني على خلفية المحكمة الدولية،
وادت الى انسحاب الوزراء الشيعة والوزير
يعقوب صراف، ما يعني ان ما حصل في جلسة
اول من امس يعكس تبدلا جوهريا في طبيعة
الاحداث ومسارها، واوحى كذلك ان ما كان
يمكن القيام به سابقا لم يعد متاحا اليوم،
بعدما تحولت الانظار الى ايران وسوريا
لرصد رد فعلهما. ومن مصلحة الطرفين حاليا
تغييب أي رد فعل، سواء على القرار الدولي
او حتى على ما قامت به اسرائيل، لان ذلك
يمكن ان ينقلب سلبا في وجهة النظر الدولية
تجاه الفريقين.
الا ان التصويت في مجلس الوزراء ضاعف أكثر
فأكثر الاسئلة حول الاحتمالات المطروحة
امام لبنان في التعاطي المستقبلي مع أي
تحد اقليمي تفترضه الاحداث، اذا ما سارت
في اتجاه آخر، فالعلاقة التركية -
الاسرائيلية لم تستو بعد، واحتمالات
تدهورها وترجمتها في ساحة كردستان متعددة.
وقد لا تكون لدى ايران المفكرة نفسها التي
تتبعها سوريا في اختيار اولوياتها والذهاب
في منحى قد يكون اكثر خطرا من المنحى الذي
تتبعه دمشق حاليا.
فسوريا تريد ورقة لبنان، ولكن الثمن
الايراني لم يزل مجهولا. اما الثمن
السوري، فتريده دمشق حاليا من التهدئة
التي فرضتها تطبيعا اكثر جدية للعلاقة بين
دمشق و"تيار المستقبل"، ومن ورائه تثبيت
اطر التعاون المقبل.
وبحسب من التقوا اخيرا مسؤولين سوريين،
فان اسئلة طرحت صراحة عن العلاقة مع
مسيحيي 14 آذار وتحديدا مع "القوات
اللبنانية". لكن الاجوبة اللبنانية لا
تزال مصرة على عدم العودة الى مرحلة ما
قبل عام 2005 وان ما ثبت حتى الان من
علاقة داخلية لن يتم التراجع عنه. رغم ان
عارفي دمشق والخبراء في العلاقة معها
يدركون تماما ان سوريا تضغط بكل ثقلها
لتهميش بكركي و"القوات اللبنانية"،
لاستمرار وقوفهما ضد سوريا. وبعدما ايقنت
دمشق ان الحملة على بكركي لم تؤت ثمارها
قررت تجاهلها، فيما بقيت الحملة على
"القوات" قائمة. وبدل ان تساهم في شد
العصبية المسيحية الداخلية ضد سوريا، كما
جرى ابان الحملة على "قرنة شهوان"، ارتدت
في صورة دراماتيكية على الوضع المسيحي
الداخلي في خضم الصراع المتجدد بين
"المردة" و"القوات"، الذي تستفيد سوريا
وحدها منه في غرق متماد للوضع المسيحي في
الانقسام والشرذمة، وتحولت "القوات" من
مركز رأس الحربة ضد دمشق الى مدافع او
مهاجم مع فريق مسيحي آخر. وهو امر يذكّر
تماما بمرحلة عام 1990 التي استفادت دمشق
منها ومن الصراع المسيحي الداخلي للدخول
الى بعبدا. لكن التعويل الوحيد يبقى على
الاستفاقة الاميركية، التي لا تشبه حتى
الآن الدور الاميركي في التسعينات الذي
استعان بسوريا ضد العراق مقابل اعطائها
لبنان. في حين ان سوريا تريد اليوم الثمن
نفسه، لكنها لم تلق بعد آذانا اميركية
صاغية. |