يثير
القرار الذي اصدره قاضي محكمة الجنايات
العسكرية الثانية في العاصمة السورية دمشق
بحبس القاضي السابق، المحامي والمثقف هيثم
المالح ثلاث سنوات أسئلة لا حصر لها؛
أولها صدقية واستقلال القضاء ومهنية
القضاة، وثانيها دور منظمات وهيئات
المجتمع المحلي. فهذا الحكم لا يشكل اهانة
للقاضي والقضاء فحسب بل وللتاريخ والحضارة
السوريين.
فالمالح وقبله جميع من ادينوا من
المثقــــفين واهل القـــلم لم يرتكب اي
منهم جريمة قتل عمد، كما لم يرتكب جريمة
الخيانة أو الاتصال بالعدو، لم يهدد او
يمس السلامة العامة أو حياة الافراد
والمجتمع.
هيثم شيخ جليل في التاسعة والسبعين من
عمره، ليس له من القدرة الجسدية على ايذاء
الاخرين اما طاقته الذهنية فلا يتقبل عاقل
انه يسخرها للنيل من امن وسيادة بلده
التصق بترابه رغم حملات الاقصاء والاساءة
على مدى نصف قرن. التهمة التي ساقها قاضي
المحكمة العسكرية 'نشر أنباء زائفة' مضحكة
ومثيرة للشفقة في شكلها ومحتواها.
هل حقا نشر المالح انباء زائفة ولمصلحة
من؟ وهل تستحق جريمة بحجم 'نشر انباء
كاذبة' عقوبة الحرمان من الحرية والسجن
لمدة ثلاث سنوات؟ لماذا أقدم المالح على
اقتراف هذه الجريمة وما هي دوافعه واهدافه
وما حجم الضرر الذي خلفته على المصلحة
العامة، ان هي أضرت فعلاً؟ هذه المعايير
القانونية يجب ان تأخذ بعين الاعتبار
والتمحيص الى جانب الوضع الشخصي للمتهم
وخاصة تقدمه في العمر؛ قدم في الحياة
واخرى في القبر كما يقول اهل الحكمة.
كما أسلفنا اعلاه لا مصلحة أو منفعة شخصية
للمالح في ترويج او تسريب اخبار كاذبة او
زائفة وان وقع ذلك حقا فالاكيد انه بحسن
النية ودون سبق الاصرار. فالرجل قاض سابق
ومحام مخضرم ومثقف موقر كما يعرفه كل من
احتك به او قرأ كتاباته. ربما بل والاكيد
انه لا يمارس مهنة المحاماة في بلد توزع
فيه الوظائف كهبات من النظام. ونعني هنا
كل من اؤتمن على مسؤوليات وصلاحيات واسعة
في مؤسسات الدولة. لو سلمنا ان الجريمة
ارتكبت عن طريق الخطأ فهل يعقل ان يحكم
عليه بالسجن ثلاث سنوات في بلد تعتبر فيه
الرشوة من العلائم الابرز للحياة؟ ولأن
المسؤولين في سورية على معرفة وإلمام بنمط
الحياة في المملكة المتحدة نسوق لهم
وللمهتمين المختصين والقراء الكرام
الحكاية التالية التي وقعت احداثها
الحقيقية في مدينة وسط المملكة المتحدة:
قبل عدة سنواق استدعت المحكمة رجلا مسنا
أصغر عمرا بعشر سنوات من السيد المالح.
اعترف المتهم بدهسه بسيارته شخصا فارق على
اثر الحادث الحياة. كان الضحية يعبر
الشارع بشكل نظامي على اشارة مرور المشاة،
وأكد الشهود ان المتهم كان متوترا ويتجادل
وابنه الجالس على يساره في المقعد
المجاور.
توفرت كافة الادلة الحسية والعينية لادانة
وتجريم المتهم، لكن حكم القاضي جاء صاعقا
اذ لم يُصدر حكما بحبس المتهم. وتقول
الحكاية ان القاضي استند في حكمه الى تقدم
عمر المتهم وسجله العدلي. خاطب القاضي
المتهم قائلا ليس بامكاني ان اسجنكم وانتم
في هذا العمر المتقدم وأحترم ما قدمتموه
لهذا البلد وما تحملونه من اوسمة. عاد
المتهم الى بيته حرا.
التهمة التي ادين بها المالح ممجوجة جدا
وتتكرر كثيرا في المحاكم العسكرية السورية
التي تنشغل منذ سنوات في ملاحقة المواطنين
استنادا الى بلاغات هدفها على ما يبدو
الاقتصاص من المثقفين وتكميم افواههم. ومن
بين التهم المضحكة والمخجلة في آن تلك
التي تتحدث عن 'خدش الشعور القومي' والتي
سجن بسببها المثقف والكاتب السوري ميشال
كيلو كمثال لا للحصر. في نفس اليوم الذي
صدر فيه الحكم بحق المالح كانت السلطات
تفرج عن المثقف فايز سارة بعد قضائه عقوبة
السجن بتهمة مماثلة.
قبل سنوات، وصف كاتب هذه السطور من على
شاشة فضائية 'الجزيرة' في قطر رئيس وزراء
المملكة توني بلير بـ 'كلب جورج بوش'
وتجاهلنا يومها طلب المحاور العربي الذي
ارغى وازبد دفاعا عن بلير. عندما عدنا الى
مطار هيثرو بــــعد يوم او يومــــين
استقبلنا ضابط الجوازات بابتسامة عريضة
والسؤال عن استمتاعنا بالرحلة وبعد ان
انجز عمله ناولنا جواز السفر متمنيا لنا
بقية نهار سعيدة.
تعتبر المهنية والشفافية والانسانية
المطلقة من متطلبات عمل القضاة. لكن بعض
القضاة السوريين وخاصة قضاة المحاكم
العسكرية تمادوا في الاساءة للمهنة الاكثر
انسانية. فالحكم الصادر على السيد والشيخ
الجليل هيثم المالح يؤكد ان هؤلاء القضاة
افرطوا في الظلم والمداهنة، لقد نصب كل
منهم نفسه دكتاتورا ظالما لا يعرف الرحمة.
لسنا نتهم قضاة سورية جميعا ولا نتهم
المسؤولين بالجملة عملا بالقول العربي 'لو
خليت بليت' بل نشير باصبع الاتهام الى
منظومة علاقة قانونية وقضائية مهترئة بسبب
تقادمها وعدم مراعاتها متطلبات التقدم
والانسانية. وندعم حجتنا هذه بالقصة
الحقيقية التالية. قبل عدة أشهر توجهت
سيدة دنماركية من اصول عربية وابناؤها الى
العاصمة دمشق لغرض السياحة. اوقف رجال امن
المطار ابنها البالغ اربعة عشر ربيعا
والمولود في الدنمارك. سبب التوقيف انه
متهم بارتكاب جريمة قتل في سورية. كل
الادلة لم تقنع ضباط الامن الذين عندما
يضيقون ذرعا بتفسيرات ضحاياهم يردون
بالقول 'انا ما بفهم' لتبرير ما يقدمون
عليه؛ وهم حقا لا يفهمون ولا يدركون ما
يفعلون كونهم مجرد بيادق تمشي على ارجل.
نقل الطفل الذي بالكاد يتكلم العربية الى
قاضي التحقيق. أثناء جلسة التحقيق راح
الطفل يعبث برباط حذائه في حضرة القاضي
الذي تفهم الامر وأمر باطلاق سراحه فورا
لأن المتهم الحقيقي بالجريمة عمره أربعون
عاما ومتزوج.
لا زلنا نتطلع ونتمنى ان يطالعنا القضاء
العسكري بنتائج تحقيقاته عن الجرائم التي
ارتكبت وترتكب في وضح النهار باغتيال
مسؤولين سوريين مرموقين، مثل العميد محمد
سليمان كمثال لا للحصر. ونتطلع كما يتطلع
الشعب السوري الى قضاة تحرك العدالة
ألسنتهم وأقلامهم وضمائرهم.
أما المنظمات الاهلية والمجتمع المحلي
فمطالبون بالصبر او ابتكار الادوات
والوسائل لايصال صوتهم واحداث تغيير في
هذا الواقع المظلم. مهمة كهذه تتطلب اولا
النأي بالذات عن 'نصائح'، و'غيرة'
و'حماسة' الجهات الخارجية؛ الامريكية منها
والاوروبية على وجه الخصوص. فالتغيير يجب
ان يتم وفق اجندة وطنية بعيدة عن مطامع
الغزاة والا فانها تقع في النقيض. بعد غزو
العراق في 2003 تعالت اصوات مثقفين سوريين
كثر تطالب بتكرار تجربة بغداد، هذا امر
مرفوض ويصنف في باب الخيانة و العمالة.
المثل الانكليزي القديم يقول 'لا شيء
مقابل لا شيء'.
الاكيد ان بطانة وحاشية الشر والفساد في
مؤسسات الدولة تحول بين المسؤولين
والمواطنين. الاكيد ان الكثير من
المداهنين يتربعون على الكثير من مراكز
القرار. لكن على المثقفين ان يواجهوا
الحقائق ويعملوا بصبر وبهدوء شديدين
فالكلمة الصادقة كما صوت الحقيقة لا
يهزمان ولا يندثران والاكيد ان تردد الصدى
يوصل، ورحلة الالف ميل تبدأ بخطوة.
كاتب فلسطيني يقيم في بريطانيا |