شركة
سوريّة خصصت في إحدى السنوات موازنة من
أجل تدريب موظفيها وصلت إلى (130) مليون
ليرة سوريّة، مدير التدريب في هذه الشركة
أقرَّ أنهم لم يصرفوا منها سوى (150) ألف
ليرة سوريّة، وذهبت الخطة أدراج الرياح.
مدير دائرة التأهيل والتدريب في وزارة
الشؤون الاجتماعية والعمل يشير إلى خطة
تدريبية وضعت في العام (2010) تعتبر من
أروع الخطط غير أن تنفيذها يعترضه الكثير
من الصعوبات، فكانت خطة وردية لا أكثر.
في أحد البنوك الخاصة قاموا بتدريب طاقم
كبير من الموظفين (في سابقة أولى من
نوعها) علموهم مهارات تدخل إلى السوق لأول
مرة، ولكنهم لم يعيدوا الكرّة ثانية، لأن
إدارة البنك شعرت يومها بخطر حقيقي ووقعت
تحت رحمة موظفيها الذين فكروا بتركها بعد
أن قامت بتدريبهم وأنفقت الملايين.
لم تنجح عملية التدريب في إحدى الشركات
الخاصة بسبب غياب خطة تقوم على تحليل
احتياجات التدريب، وفشلت العملية في
القطاع العام لعدة أسباب سنأتي على ذكرها
لاحقاً، أما في البنوك وشركات التأمين
وسائر القطاعات الاقتصادية التي دخلت
السوق حديثاً فتسري فيها قاعدة (لا ندرّبه
حتى لا يتركنا بحثاً عن فرصة أفضل).
يأتي ذلك في سياق اهتمام حكومي واسع
بعملية التدريب والتأهيل في القطاعين
العام والخاص وصدور قانون يطالب بتخصيص (3
%) من الموازنة العامة للتدريب.
إذن نحن أمام مشكلة: هل تتجسد في الخطة،
أم في الموازنة المرصودة للعملية برمتها،
في الخبرات غير المؤهلة للقيام بعملية
التدريب؟ أما في عقلية لا تولي الأمر
أهمية حتى اللحظة؟ لا ندري أين المشكلة
بالضبط؟
إهمال للتدريب في القطاع العام:
قبل عملية الانفتاح على اقتصاد السوق،
كانت مديرية شؤون العاملين في أي وزارة
حكومية أو مؤسسة تعتبر عملية التدريب
شأناً غير ضروري في أغلب الأحيان، وإذا
حصل كان يسمى دورات تأهيل الكوادر، ربما
يضع الخطة موظف من الفئة الثانية أو أقل،
خطة تبقى في الإدراج لا ينفذ منها إلا ما
ندر، يقول مسؤول في وزارة الصحة: (كنا
نخاطب مديريات الصحة في المحافظات مرات
ومرات من أجل إرسال مندوبين لحضور دورة
ما).
وفي مديرية صحة الحسكة نظمت أكثر من دورة
للممرضات خلال العام الواحد غير أنَّ جدول
الغياب يمكنه أن يعطي صورة كافية عن مدى
أهمية التدريب في القطاع العام. فكل عشر
ممرضات ربما تحضر أربع والغياب يكون بحجة
عدم القدرة على السفر، وعدم وجود من يسير
أمور العمل في حال تغيّب الممرضة الفلانية
وهكذا، قد تنتهي الدورة دون فائدة ترجى
منها.
الدكتور منير عباس رئيس جمعية إدارة
الموارد البشرية وخبير تطوير مؤسساتي ينظر
إلى التدريب المهني على أنه أفضل عملية
يمكن الاستثمار فيها لأنها ذات عائدية
أعلى وربحية أكثر، لكن يبدو أنّ هذا الفكر
لم يؤخذ بعين الاعتبار حتى مطلع العام
(2001)، عندما اكتشفنا كارثة حقيقية على
صعيد بناء القدرات البشرية، عندما استفحلت
قضية الاستعانة بخبرات أجنبية!
عدم تحليل احتياجات التدريب:
من يتذكر من موظفي القطاع العام أنه أخضع
لعملية تدريب مستمرة حقيقية، أنا أذكر
أنهم في القطاع العام (كما في المؤسسة
العامة لتوليد الطاقة الكهربائية) كانوا
يفرحون من القلب في حال أدرج اسم أحدهم في
دورة ما، لأنها تعني الغياب والتقصير في
العمل المرهق، وحدثنا مهندس: أنهم لا
يعتمدون في وضع دراسة لبناء محطة معالجة،
مثلاً، إلا إن كانت مقدمة من قبل مهندسين
عرب أو مهندسين سوريين عملوا في الخارج
حتى أن النقص في الخبرات في هذا المجال
بات معروفاً، بينما نحن نستغرب تملّص
المهندسين ومن اتباع دورات تطوير في حال
نظمتها وزارة الإسكان أو غيرها مثلاً!
اليوم، تغير الحال وأصبح موضوع التدريب
والتأهيل أهم أولويات الخطة في أي مؤسسة
أو شركة كانت، غير أنَّ النظرة المترسخة
عنه في ذهنية العاملين هي المشكلة؟ فهناك
موظفون لا يؤمنون بأي دورة تنفذ وهم
يطالبون بأجورها قبل اتباعها بشهر.
ورغم أنّ قانون العمل الجديد نصَّ على
إلزام أصحاب العمل في المنشآت التي يزيد
عدد عمالها على (50) عاملاً بتخصيص مبلغ
من كتلة الأجور لدعم عمليات التدريب ورفع
مهارات العاملين وسمح بإحداث مراكز تدريب
في منشآت القطاع الخاص لكن..؟! العملية
ماتزال قيد الدراسة بل سقطت في أحيان
كثيرة من تفكير إدارات القطاع الخاص، يقول
الدكتور كنان بهنسي مدير مشروع بيانات سوق
العمل والخبير في تطوير مهارات العمل أنَّ
الإيمان بالاستثمار في الرأس المال البشري
ليس موجوداً، وهناك وحدات تدريبية كانت قد
افتتحت ثمّ ألغيت فيما بعد، والنتيجة التي
توصل إليها، موظف يعاني من ضعف في
المهارات والإمكانات، لأن الشركات لا تؤمن
بأهمية العنصر البشري فنرى قاعدة (لا
نعلمه حتى لا يتركنا) هي الأساس.
ويضيف بهنسي في معرض حديثه عن صعوبات
عملية التدريب: (إحدى الشركات الخاصة
افتتحت أكاديمية للتدريب ثم أغلقت بسبب
عدم القدرة على دفع تكاليفها الباهظة إنما
وجودها خرج عمالة تفهم بالاتصالات وتدير
قطاعاً كاملاً اليوم ما دفعهم إلى
الاستغناء عن خبرات خارجية) فالتدريب ليس
كلمة سهلة بنظر بهنسي، إنه موازنة ضخمة
مرصودة لضمان الاستمرارية.
في حين يرى الدكتور منير عباس أنَّ القطاع
الخاص يولي أهمية كبيرة للتدريب الفني
وتطوير مهارات الفرد لديه لأنه يعتبر أن
الرأس المال البشري أهم بكثير من
الاستثمار في الرأس المال المادي يقول:
(ما الفائدة من شراء آلة بملايين
الدولارات ولا يوجد لدي فني مدرب ومطور
على استخدام الآلة إذ تتكلف الإدارة
دولارات أخرى في حال تعطلت بسبب خطأ فني
ما، فالعملية نفسها إما أن أطور كادراً
مؤهلاً أو أصرف على تصليح أعطال).
ينظر بهنسي إلى وجود فجوة كبيرة بين
الشواغر الموجودة في السوق والعاطلين عن
العمل إذ لم تتناسب مخرجات التعليم
الجامعي مع متطلبات سوق العمل فهناك هوّة
تتسع يوم إثر يوم بين العرض والطلب.
ونتيجة ضعف التدريب في الشركات خلقت هذه
الفجوة، إذ أن الشركات التي أحدثت لديها
أقسام للموارد البشرية لا تتعدى (10 %) من
مجمل الشركات الموجودة وليس فيها خطط
تدريبية من الأساس، (هناك شركات في حلب
لازالت قائمة على عقلية «الحجي» وعقلية
الشركة الأسرية والعائلية، وهذه لا يمكنها
الإيمان بجدوى العنصر البشري وأهميته،
ويوجد نقص على المستويين، سواء على مستوى
الداخلين إلى السوق الجديدة مقارنة مع
الخبرات المطلوبة في سوق العمل، والتي
تتجه باتجاه سوق المصارف والبنوك والتأمين
والمال والأعمال، فهل الجامعة أو المؤسسة
التعليمية تؤمّن اليوم تلك الخبرات،
ويوضح: (لدينا طالبو عمل لا يتمكنون من
وضع سيرة ذاتية مثلاً؟! من المسؤول عن هذا
كله، ونحاول في مشروع بيانات سوق العمل
تحقيق مواءمة بين الراغبين في العمل
والشركات الباحثة عن عمالة).
وتشير المعلومات الأولية الصادرة عن
تقارير هيئة تخطيط الدولة أنّ القطاع
العام يصرف من الأموال على التدريب
أرقاماً عالية لكن المشكلة في غياب تقييم
الأثر، تقييم الإنتاجية لما بعد التدريب،
ماذا بعد التدريب؟! سؤال لا يطرح على
الإطلاق.
نقص الخبرات:
بينما ترى ديما الخطيب من قسم الموارد
البشرية في الهيئة السورية للإشراف على
التأمين أنّ القطاع الخاص ينظم عمليات
تدريب ضخمة وهائلة، ولكن حتى الآن ليس
هناك موازنة مخصصة في الهيئة لهذا الأمر،
ويدرس تقديم مقترح أولي.
ولا توافق الخطيب مع بهنسي بغياب أثر
التدريب بالقول: (صممنا استبياناً يأخذ
بعين الاعتبار احتياجات التدريب لدى
الموظف في الهيئة، لقد تعاقدنا مع شركة
«شعاع الشام» من أجل تطوير عمليات التدريب
على المستويين الداخلي «موظفي الهيئة»
وعلى المستوى الخارجي «موظفي سوق التأمين»
وهي مقترحات لتطوير العمل ونحن نطالب
المتدرب بعد كل دورة اتبعها بكتابة تقرير
مفصّل عن الدورة ومدى استفادته منها).
المدرب يحتاج إلى تدريب:
فيما ينكر هذا الكلام موظف آخر في الهيئة
لصالح رأي آخر: (موضوع التدريب يكون
غالباً غير ملائم مع أهمية وحجم الدورة
إضافة إلى إغراقنا بكلام نظري وأكاديمي
ليس له صلة بواقع سوق التأمين، هناك نقص
في الخبرات والكوادر التي تدير عملية
التدريب بشكل عام لدرجة نقترب معها من حال
عايشناه فترة الجامعة أو الكلية).
وإلا ما تفسير أنّ تلجأ الهيئة السورية
للإشراف على التأمين إلى عقد اتفاقيات
تدريب مع شركات أجنبية؟ أليس مؤشراً على
ضعف ونقص الخبرات في التدريب؟ فهناك
اتفاقية تم توقيعها مع جمعية لوما الكندية
(LOMA) عام (2009) لاتباع دبلوم متخصص في
مجال (التأمين الصحي والتأمين على
الحياة)، وكانت أولى الاتفاقيات تم
توقيعها من قبل الهيئة في مجال التدريب
عام (2008)، اتفاقية التعاون مع معهد
البحرين للدراسات المصرفية والمالية
(BIBF)، من خلال اعتماد برنامج (شهادة
التأمين المهنية «PIC»)، والمعترف به من
قبل المعهد القانوني بلندن (CII) برنامج
تأميني موجّه ليس فقط لشركات التأمين، بل
لكافة الأشخاص الراغبين بالدخول في المجال
التأميني. ولكم تقدير الموقف، فتلك جميعها
شركات أجنبية تدرّب عمالة سوريّة ربما
تستفد منها وربما لا تستفد!
كلام يؤيده مدير التأهيل والتدريب في
وزارة العمل (عزت): (خطة التدريب في العام
«2010» رائعة لكن لا تنفذ بمجملها،
كالأعمال التدريبية المتخصصة التي تستهدف
العاملين في مديريات العمل والقوى العاملة
والتدريب على تفتيش العمل ودراسة أسواق
العمل ودعم سياسات العمالة والتشغيل هذه
دورات تديرها شبكة العمل العربية أو منظمة
العمل الدولية لأنه ليس لدينا شخص خبير
يفهم بها ببساطة).
لكن الدكتور عباس يعتبر المشكلة في القطاع
العام نفسه وعقلية القائمين عليه: (موازنة
كبيرة مرصودة لعملية التدريب في القطاع
العام إنما المعوق الأكبر بغياب
استراتيجية التدريب كاملة).
وتردف الخطيب قولها: (وصل عدد المشاركين
ما بين القطاعين العام والخاص خلال عام
«2009» إلى «463» متدرّب منتسب في البرامج
المعتمدة من قبل الهيئة، فقد كانت مساهمة
الهيئة في الخطة التدريبية لعام «2009»
«14 %» من أصل «57 %» وكانت حصة الشركات
من البرامج التدريبية الخاصة «43 %» ذلك
إضافة للبرامج المتبعة من قبل كل شركة،
والمتعلقة باستراتيجية عمل الشركة
المحكومة بالتوسع في كوادرها وجغرافياً
بفروعها).
الدكتور نبيل مرزوق الخبير الاقتصادي يشير
إلى وجود عدم ترابط بين السياسات والخطط
وبين الواقع في الاقتصاد السوري إذ تعاني
عدم مرونة فالخطط تقول مثلاً بأن الإنسان
هو الهدف الأول للتنمية أما الذي يجري على
الأرض ليس كذلك.
ويشير التقرير الصادر عن مديرية التأهيل
والتدريب في وزارة العمل للعام (2011) أن
الوزارة بصدد اعتماد خطة تدريب شاملة
تتضمن التدريب في مجال العلوم الإدارية
والاقتصاد والقانونية بكلفة مليون ليرة
سورية تستهدف الإدارات المركزية ورؤساء
الدوائر، وهي بصدد إجراء دورات تدريبية
لرؤساء الشعب والعاملين الجدد في مجال
القانون الأساسي للعاملين في الدولة،
وقانون العمل الجديد وقانون الجمعيات
والعقود والمناقصات والنظام المالي
الأساسي وينكر القائمون عليها إهمالهم
موضوع التدريب إذ أنهم أجروا دورات
تدريبية لكافة العاملين وبما يفوق الـ(100)
دورة في عام واحد ولا ينكرون بدورهم عدم
وجود خبرات كافية للقيام بدورات تخصصية في
مقدمتها الدورات التي يحتاجها العاملين
فعلاً كالدورات في مجال التنمية
الاجتماعية (اقتصاد سوق اجتماعي، إدارة
مشروعات فردية، تنمية مستدامة وعمالة
أطفال، عنف أسري) وهي جميعها موضوعات دخلت
حديثاً إلى سوريا.
لكنهم نظموا دورات ذات أهمية تذكر - على
حد قول مدير التأهيل - استهدفت العاملين
في مجال الحماية الاجتماعية وشبكات الضمان
الاجتماعي ودورات تدريبية فإدارة الموارد
البشرية وتطوير العمل المؤسساتي عدا عن
القيام بجولات اطلاعية على تجارب دول في
الخارج وأنها ترصد موازنة تفوق (18) مليون
ليرة سوريّة لأغراض التدريب الأمر الذي
يتناقض مع كلام عباس عن ضعف الإمكانات
وغياب الإيمان بأهمية العنصر البشري في
أروقة القطاع العام: (دخلت برامج كثيرة
لتأهيل وتطوير المؤسسات والوزارات العامة
وجمعيها وضعت خططاً وقواعد وعلى الراغبين
بالاستفادة أن يستفيدوا منها، ولكن إذا
كان هناك من لا يريد أن يطور قدراته، فما
ذنب البرامج والخطط؟).
فعلاً، ما ذنب الدورات والخطط إذا لا أحد
من موظفي القطاع العام يؤمن بدور وفعالية
التدريب، فها هي الهيئة العامة للتشغيل
وتنمية المشروعات وضعت أفضل البرامج من
أجل تدريب الوافدين الجدد إلى سوق العمل
وعقدت أكثر من اتفاقية مع إدارات القطاع
الخاص، التي وافقت على تنفيذ برامج
التدريب من أجل التشغيل يقول مجاهد عبد
الله رئيس الهيئة: (هدفنا تعليم العاطلين
عن العمل والباحثين في فرص عمل مهارات
تفتح أمامهم أبواباً جديدة ولم ننجح إلا
بمساعدة شركات القطاع الخاص، قدمت الهيئة
عرضاً مغرياً للشركات الخاصة في برنامج
التدريب من أجل التشغيل إذ تؤمّن هي
العمالة المطلوبة وتدفع رواتب شهرية لهم
في سبيل تدريبهم وبقاءهم في الشركات
يطلعون على مهارات العمل الجديدة).
مدير عام شركات السويدي زياد غزالة يشكو
من نقص العمالة التي تتطلبها معامل
السويدي للكابلات، وأنهم طلبوا من مكاتب
التشغيل عمالة فلم تفِ بالغرض المطلوب،
لذا كان لابد لهم من التوجه إلى الهيئة
علّها تنجح في تأمين عمالة تتمتع بمهارات
تطلبها الشركة، فرسى العقد على أن تقوم
الشركة نفسها بالتدريب، وتنفذ الشركة
العقد مع تخوفات من عدم نجاح التجربة
ووقوع الشركة في دوران العمالة التي
تكبّدت خسائر لا بأس بها في عملية
التدريب.
مطالب مشروعة:
نحن إزاء مشكلة لا تطلب سوى تفهم القطاع
الخاص لمشكلة التدريب وتبني العملية
بنزاهة فيكون لدينا عمالة مدربة مطورة
مؤهلة لإدارة قطاعات جديدة دخلت إلى سوق
العمل.
ونريد من القطاع العام بعض التنسيق بين
مديرية التدريب ومديرية التخطيط ومديرية
الشؤون الإدارية، وهذه الأخيرة نراها غير
مفعلة على الإطلاق، فما المشكلة لو نسقت
أعمالها فيما بينها؟ فالحديث هنا عن
ملايين تُرصد وعن سوق حر نتطلع إليه يريد
عمالة تتقن أحدث التقنيات والتكنولوجية
ولا نتحدث عن معامل قطاع عام تقبل بموظف
شهادة ثانوية أو شهادة إعدادية فقط دون
النظر إلى إمكانياته أتخدم موقعه أم لا؟!.
|