ساعة كتابة هذه السطور، كانت عربات
الأجهزة الأمنية، وأخرى تابعة للوحدات
العسكرية التي تحاصر بانياس، تجوب شوارع
المدينة وتطلق عبر مكبرات الصوت نداءات
تحثّ الأهالي على الإمتناع عن التظاهر يوم
الجمعة.
المئات من أبنائها الذين اعتُقلوا، ثمّ
أفرجت الأجهزة عنهم بعد أيام من الإحتجاز
التعسفي الصرف، حملوا في أجسادهم علامات
تعذيب همجية، بينها إطفاء أعقاب السجائر
في الظهر أو الكتفين، واقتلاع أظافر اليد،
فضلاً عن تقارير تحدّثت عن بتر أصابع
الأيدي.
بعض هؤلاء أبلغوا 'المرصد السوري لحقوق
الإنسان' أنهم لم يشاركوا في مظاهرة، ولا
في أيّ عمل سياسي، وأنهم اعتُقلوا أثناء
سيرهم في الشوارع، والتحقيق معهم دار حول
أمور يجهلون تفاصيلها تماماً.
قبل ساعات قليلة، كانت مسيرة نسائية قد
انطلقت على الطريق الرئيسي الذي يربط
المدن الساحلية، للمطالبة بالإفراج عن
الأزواج والآباء والأشقاء والأبناء، ولرفع
الحصار عن مدينة بانياس وقرية البيضة،
وتأمين المواد الغذائية والدقيق للأفران،
حيث أخذت كميات الخبز تشير إلى نقص خطير.
كانت هذه المسيرة تؤكد، على نحو ساطع
وللمرّة الأولى، انخراط المرأة السورية في
الإنتفاضة؛ على نحو لا يطلق معطى جديداً
سياسياً وإنسانياً فحسب، بل يشير كذلك إلى
تطوّر سوسيولوجي بارز له أبعاد تربوية
وأخلاقية عالية المغزى.
وحين كان بعض الفتية يتواجدون، طواعية أو
بالإكراه، في صفوف ما يُسمّى 'اللجان
الشعبية' المسلحة، التي أقامت الحواجز على
مداخل المدن والقرى، وأخذت تدقق في
الأوراق الثبوتية للداخلين والخارجين؛ كان
فتية آخرون (يصعب القول إنّ 'المندسين'
و'العصابات' أكرهتهم على ما يفعلون!)،
يعرّون صدورهم وينبطحون أرضاً أمام
الدبابات المتقدّمة صوب بانياس والبيضة،
فيسجّلون بهذا تطوّراً نوعياً جديداً في
أساليب التعبير السلمي عن الإحتجاج. وإذا
جاز السجال حول طبيعة الدوافع في
الشريحتين، وأنّ الفتية في الحالتين كانوا
يدافعون عن الوطن أو البلدة او الضيعة،
كلٌّ على طريقته، فإنّ ارتطام الدوافع
وسقوطها في تناقض وتصادم هو مسؤولية
النظام أوّلاً.
وهذا، بالطبع، خيار خبيث اعتمدته السلطة
عن سابق قصد وتصميم، ضمن سياسة عريضة
تتعمّد المزج بين إخافة المواطنين من
كوابيس حرب أهلية بين الطوائف والمدن
والبلدات والقرى، وإخافة المواطنين من
بعضهم البعض، وإخافة الخارج الإقليمي
والدولي من مغبّة ما ينتظر سورية من أخطار
التقسيم والتفتت. وإلى جانب الأجهزة هذه،
لا يعدم المرء عبقرياً مثل الباحث
الأمريكي جوشوا لانديس، الذي يقيم معظم
الوقت في سورية ويطبّل للنظام بما هو أسوأ
من تطبيل أنصار النظام العرب، أو حتى
أبواق السلطة ذاتها، يحذّر من أنّ سورية
لم تكن موحّدة في أيّ يوم، وأنّ انقسامها
إلى طوائف وإثنيات ناجم عن تشرذم حدودها
بين الدول!
عند شرائح أخرى من المشاركين في الإنتفاضة
السورية، طلاب جامعتَيْ دمشق وحلب على
سبيل المثال، قُوبلت أولى التظاهرات بطراز
خاصّ من البلطجية، حاملي المسدسات
والرشاشات وليس الهراوات أو العصيّ
الكهربائية أو السلاح الأبيض فقط، يقودهم
عمار الساعاتي، رئيس ما يُسمّى 'الإتحاد
الوطني لطلبة سورية'.
وإلى جانب استخدام الذخيرة الحية في تفريق
التظاهرات، وسقوط طالب شهيد من كلية
العلوم، ضغطت الأجهزة الأمنية على رئاسة
جامعة دمشق فأصدرت قرارات بفصل عشرات
الطلاب الذين شاركوا في التظاهر، وأحالت
آخرين إلى 'لجنة الإنضباط'!
سياسة حملات الإعتقال الواسعة انتقلت من
طور توقيف المشاركين في التظاهرات
والإعتصامات، أو التوقيف العشوائي كيفما
اتفق، إلى اختطاف أو اعتقال ناشطي المجتمع
المدني، أمثال عامر مطر ونجاتي طيارة
والسيدة ملك الشنواني؛ والكتّاب والمثقفين
ذوي الحضور الاجتماعي والسياسي، أمثال
الشاعر الشاب معاذ هويدي؛ وقادة الأحزاب
السياسية المعارضة، أمثال غياث عيون
السود، الأمين الأوّل للجنة المركزية
لـ'حزب الشعب الديمقراطي السوري'، وجورج
صبرة، عضو اللجنة المركزية للحزب ذاته،
وأحمد معتوق، القيادي في حزب 'الإتحاد
الإشتراكي الديمقراطي'؛ والإعلاميين
الكتّاب الناشطين، أمثال فايز سارة، الذي
خرج من السجن قبل أشهر فقط. وهذه حملات
شملت، وتشمل، المحافظات السورية كافة،
ويلوح أنّ الضربة الوقائية هي في طليعة
اهدافها القريبة، إذْ أنّ أهداف القمع
والقهر والتنكيل والإخضاع والترويع واللجم
والترهيب... ليست جديدة، البتة، على أجهزة
النظام.
في غضون هذه التحوّلات، الأكثر إيغالاً في
الخيار الفاشي، أوعز النظام لأبواقه
بالتركيز أكثر فأكثر على أكذوبة 'المؤامرة
الخارجية'، وأعاد نفض الغبار عن
سيناريوهات أواخر السبعينيات ومطلع
الثمانينيات من القرن الماضي، حول اكتشاف
مخازن أسلحة (بالأطنان، كما يصرخ أحد
الأبواق!)، في مخابىء عجيبة مثل قلعة
المرقب مثلاً (وكأننا لسنا في سورية
'الحركة التصحيحية'، حيث لا عمل للأجهزة
الأمنية إلا عدّ حركات المواطنين
وأنفاسهم!). كما أعاد النظام إنتاج ذلك
السيناريو، المكرور العتيق المفضوح، حول
قيام جماعة 'الإخوان المسلمين' السورية
بتجنيد 'عملاء' محليين يعيثون في الأرض
فساداً وتحريضاً وتخريباً؛ ويحدث أن يشارك
في التجنيد أناس أفراد، وليس حركات
ومنظمات وجماعات، مثل هذ النائب اللبناني
التابع لآل الحريري، الذي يسلّح أهل
بانياس؛ أو رجل الأعمال السوري ذاك،
المقيم في الخارج، والذي اجتمع بزيد أو
عمرو من أبناء درعا، لتزويد أهلها
بالسلاح!
لا أحد، بالطبع، ينزّه آل الحريري عن
محاولات إيذاء سلطة بشار الأسد، فهم في
هذا السلوك سواء مع النظام، يكيل لهم
فيكيلون له؛ وليس لرجل أعمال سوري، كان
حتى عهد قريب من 'عظم رقبة' السلطة
وأهلها، وأحد كبار مشغّلي آلة الفساد
والنهب، أن لا يبادر إلى عرض خدمات شتى
هادفة لامتطاء زخم الإنتفاضة الشعبية.
السؤال، مع ذلك، يبقى التالي: هل جميع
السوريين الذين تظاهروا واحتجوا وانتفضوا،
وقدّموا الشهداء والجرحى والمعتقلين
بالمئات، من درعا إلى القامشلي، ومن السهل
إلى الجبل، ومن النهر إلى البحر... عملاء
عند حفنة من نوّاب لبنان أو حيتان الفساد
السورية التي انقطع رزقها جرّاء ارتطام
مصالح الفاسدين؟ واستطراداً، هل يعقل أنّ
نظام 'الممانعة'، الذي 'قاوم' الولايات
المتحدة وإسرائيل، و'هزم' المخططات
الإمبريالية، وتحصّنه سياسته الخارجية من
كلّ ثورة شعبية... يهتزّ بعمق، وترتجّ
أركان سلطته، ويتخبّط بين سياسة وأخرى،
ساعة بعد ساعة، جرّاء حفنة عملاء؟
والحال أنّ بيان وزارة الداخلية السورية
أعطى النذير اللفظي الأوّل حول انتقال
النظام إلى الخيارات الفاشية الأكثر
تعنتاً وعنفاً ودموية، ولم تترك فقرات
البيان هامش تأويل مختلف لما ستشهده
البلاد في قادم الأيام. ففي جانب أوّل
تقول وزارة الداخلية أنه 'لم يعد هناك
مجال للتهاون أو التسامح لتطبيق القانون
والحفاظ على أمن الوطن والمواطن وحماية
النظام العام تحت ذريعة التظاهر والذي
مازلنا نعتبره حالة صحية'؛ وكأنّ أجهزة
الأمن السياسي، بالتعاون التامّ مع أجهزة
المخابرات العامة والمخابرات العسكرية
ومخابرات القوى الجوية، فضلاً عن 'الشبيحة'
و'اللجان الوطنية'، كانت طيلة الوقت صامتة
إزاء التظاهر، مسالمة وديعة مثل حمامة!
ومن جهة ثانية، يشدّد البيان على أنّ
وزارة الداخلية لن تسمح 'بالخلط المتعمد
بين التظاهر السلمي وبين التخريب وزرع
الفتنة وزعزعة الوحدة الوطنية الراسخة
وضرب مرتكزات السياسة السورية القائمة على
أساس الدفاع عن ثوابت الأمّة ومصالح
الشعب'. هذه اللغة ليست خشبية بلاغية صرفة
إلا في مبناها اللغوي والخطابي، لأنّ واقع
الأمر برهن ويبرهن أنّ انعدام السماح يسري
منذ 41 سنة من عمر 'الحركة التصحيحية'، أي
حكم حافظ الأسد ووريثه بشار الأسد؛ ومنذ
48 سنة، هي عمر فرض حالة الأحكام العرفية
على سورية، حيث لا سماح ولا مَنْ يسمح
ويتسامح!
بالتوازي مع بيان وزارة الداخلية،
وبالتنسيق التامّ كما للمرء أن ينتظر، جاء
اجتماع وليد المعلّم، وزير خارجية النظام،
مع سفراء الدول المعتمدين في دمشق،
وإشارته إلى أنّ ما قام بها 'المخربون' في
درعا 'أمر لم يعد من الممكن السكوت عنه،
ويتطلب اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحفظ
الأمن'؛ ليس دون التأكيد على أنّ النظام
'يحترم حقّ التظاهر السلمي'، و'مشروعية
المطالب الشعبية'. ولكي لا يغيب خيار
التلويح بالهراوة، قال المعلّم إنّ 'مثل
هذه الحوادث تؤدي للإضرار الكبير باقتصاد
البلاد وسلامة المواطنين وأمنهم'، وهي
أيضاً 'محاولة للإساءة إلى سمعة سورية
الدولية، وهذا ما يهدف اليه المخربون'.
ولقد ذاق السوريون، في طول البلاد وعرضها،
طعم ذلك النوع من 'احترام' حقّ التظاهر،
كما وفّرته أجهزة النظام؛ كما شاهد العالم
مقدار حرص النظام على حقّ نقل المعلومة،
أو واجب التغطية الصحافية المحايدة لوقائع
دامية وتنطوي على جرائم حرب صريحة، ليس في
ما يخصّ وكالات الأنباء الدولية، شرقاً
وغرباً، وحدها؛ بل قبلها، وإسوة بها،
وسائل الإعلام والفضائيات التي كانت،
وتظلّ في الواقع، محض استطالات خارجية
لإعلام النظام الداخلي، وليس منع صحف مثل
'الأخبار' و'السفير' إلا المثال الأقرب
إلى تمثيل واقع الحال هذه.
وللوزير المعلّم أن يجد العزاء، كلّ
العزاء، إزاء فشل 'المخرّبين' في الإساءة
إلى سمعة النظام، التي ما تزال عطرة
فوّاحة بأريج 'الممانعة' و'المقاومة'
و'الصمود' و'التصدّي'، لدى أمثال خالد
مشعل ورمضان شلح ونبيه برّي؛ وهذ الأخير
رأى أنّ بشار الأسد 'يقود الحركة
التصحيحية الثانية بعد الحركة التصحيحية
الأولى' التي قادها حافظ الأسد. كذلك في
وسع المعلّم أن يبتهج لما يتمتع به النظام
من سمعة لدى رجل مثل رامين مهمان برست،
الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية،
الذي اعتبر أنّ سورية تتعرّض لمؤامرة
غربية وأمريكية وصهيونية تستهدف إضعاف
علاقتها بمعسكر 'المقاومة'، وأنّ
التظاهرات 'ليست عفوية'، وأنّ الغرب يصوّر
مطالب 'أقلية' على أنها مطالب 'أغلبية'
الشعب السوري، كما أنّ أعداد القتلى في
سورية لا تُقارن بأعداد ضحايا الإحتلال
الأمريكي للعراق!
أمّا حكاية الإجراءات 'الإصلاحية' دون
سواها، أي تلك التي بشّرت بها المستشارة
الرئاسية بثينة شعبان، ومثلها فعل نائب
الرئاسة فاروق الشرع، فإنّ مصير وضعها قيد
التنفيذ يبدو اليوم شبيهاً بحال المبشّرين
بها: صمت القبور، حتى إشعار آخر! فإذا وضع
المرء جانباً مسائل 'شائكة'، مثل رفع حال
الطوارىء أو إطلاق سراح معتقلي الرأي أو
استصدار قوانين الأحزاب والمطبوعات
وسواها، فما الذي اخّر تشكيل الوزارة
الجديدة العتيدة؟
هل طبخت هذه على ذات النار، الهادئة
الخامدة المنقلبة إلى رماد بارد؟ أم، كما
أخذ يردّد بعض أبواق النظام، 'ما حدا فاضي
للوزارة'، في ذروة السعي إلى قمع
الإنتفاضة الشعبية عن طريق تسعير الخيارات
الفاشية الأعنف؟
أغلب الظنّ أنّ رأس النظام، بالاتفاق
التامّ مع المؤسسة الأمنية والعسكرية،
يواصل اعتماد خيارات في القمع ليست طرائق
مستحدثة لقهر الإنتفاضة الشعبية الراهنة،
وحدها، بل هي جزء تأسيسي لا يتجزأ من ذلك
النهج المتكامل الذي اعتمده النظام في
العلاقة مع المجتمع، ونهض على مختلف طرائق
الترهيب والقمع والتنكيل. الفارق الكبير
أنّ جدران الخوف آخذة في التداعي، ولا
منجاة بعد اليوم من حساب الشعب.
' كاتب وباحث سوري يقيم في باريس |