في الوقت الذي تشكل فيه لجان للتحقيق
في قضايا الفساد، والكسب غير المشروع،
عادت فيه قضية مكافحة الفساد لتكون حديثاً
في أوساط المواطنين السوريين والناس
العاديين، وليستأثر بجزء غير قليل من
اهتمامهم الرئيسي، وهذا جعل من مناقشة
الأفكار والآراء التي تتعلق بالدولة،
والقطاع العام وضرورة إصلاحه، وإعادة رسم
السياسات الاقتصادية، والتخطيط لها بما
يخالف الخطة العاشرة، وكذلك الجهاز
الإداري، والوظيفة والموظف وغيرها من
المشاكل المستعصية التي يعاني منها
الاقتصاد السوري.. شأناً عاماً.
المحاسبة مسألة هامشية
المحاسبة تبقى دائماً مسألة هامشية مهما
كانت، إذا لم تؤد إلى استخلاص طرف أفضل
وأدق لتسيير أمور الدولة والقطاع العام،
وضبط العلاقات القائمة بينهما وبين القطاع
العام، وإذا لم تؤد أيضاً إلى إعادة النظر
بالسياسة الاقتصادية التي فرزت ظاهرة
الفساد العام، لأن ظاهرة السمسرة والوساطة
جزء لا يتجزأ من الرأسمالية التجارية ـ
العقارية، بل أن ما نسميها بالرأسمالية
التجارية هي في حد ذاتها سمسار أو وسيط
بين المؤسسات الصناعية الغربية وبين سوقنا
المحلية، ومن شأن هذه الرأسمالية دائماً
أن تلجأ إلى الوسائل غير المشروعة لتحقيق
أغراضها، لذلك فإنها في سبيل تحقيق هذه
الأغراض تنتهك القوانين، وتشجع على
انتهاكها، وتخرب الضمائر والذمم، وتنشر
فلسفة التخريب الأخلاقي، وهذا جرَّ العديد
من الموظفين والمسؤولين من قطاعات العمل
إلى منزلق الرشوة، وإلى منزلق الفساد،
وتحول القطاع العام إلى خادم مطيع للقطاع
الخاص.
الرأسمالية التجارية
أحبطت خطط التنمية
عشر خطط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية
أقيمت في سورية، وكانت معقد أمل الشعب
السوري في تحديد مستقبله الاقتصادي
والسياسي، لكن سرعان ما بدأت الرأسمالية
التجارية ـ العقارية التي نشأت وتمت بسرعة
- منذ مطلع الخطة الخمسية الثالثة بعملية
إحباط خطط التنمية هذه، وتسلطت على
مشاريعها بواسطة المقاولين الملحقين
للطبقة الطفيلية، وأوقعت عدداً من
المشاريع في هوة الانفاق العقيم، إن لهذه
الطبقة عداء داخلي للوطن، ولأحلامه،
ولآماله الصناعية، لأنها مرتبطة بها
ارتباط عمالة وسمسرة ووساطة.
ونمت طبقة الرأسمالية التجارية وتوسعت في
الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي،
وإذا ما استمرت مشكلة هذه الطبقة التي ما
تزال قائمة، وإذا كانت ما تزال تمارس
أعمالها وبموجب القوانين والتشريعات التي
حصلت عليها، فإن عمليات المحاسبة مهما
كانت شديدة ودقيقة وشاملة فإنها قد تصبح
مهدئاً وقتياً للفساد، لكنها لن تستأصله
لأن أسبابه سوف تبقى قائمة.
ومع هذا فإننا نعتبر المعالجة الاقتصادية
الاجتماعية السياسية، التي لها برامجها
الدقيقة، ولها نهجها العقائدي في التنظيم
البنيوي العام، أمراً ممكنناً في حالة
كهذه، لذلك لا بد من التساؤل عن السبيل
للمحافظة على الحد الأدنى من انضباطية
الجهاز الإداري في الدولة، وعن السبيل
لاحتفاظ بقدر معقول من فعالية القطاع
العام ودوره الاقتصادي، وعن السبيل أيضاً
إلى تحرير الموظفين والمسؤولين من تأثيرات
الرأسمالية التجارية ومغرياتها.. فليست
المعالجة الحاسمة والجذرية الوحدة الكفيلة
باستئصال الفساد كما أشرت، لكن من الممكن
أن نجد ضبطاً دائماً لمشكلة قد يؤدي عدم
ضبطها إلى تفكيك الدولة، وتسبب أنظمتها
ومؤسساتها، وإلى انتشار الفساد بصورة عامة.
أعتقد أن العلاج الوحيد يتمثل في إنشاء
نظام أعلى وأقوى للرقابة الاقتصادية، من
شأنه أن يستمر في أداء عمله وأن يمارس
الإشراف على أجهزة الدولة والقطاع العام
إشرافاً لا ينقطع، وتشعر جميع عناصر
الوزارات والمؤسسات أن قوة الرقابة
الاقتصادية والإدارية ليست قوة شكلية،
إنما تستمد سلطتها الفعلية من السلطة
السياسية.
الرقابة ليست جهازاً للتفتيش
ليست الرقابة جهازاً للتفتيش يقوم بأعماله
الروتينية، فيراجع القيود، وينظم التقارير،
ويلاحق الهامشيات معتمداً على صورة
القانون دون روحه في الممارسة والرقابة،
إن هذا النوع من الرقابة الرمزية موجود في
كل دولة وموجود في كل مؤسسة، وهو موجود
لدينا، وعلى الرغم من وجوده، فقد انتشر
الفساد، لذلك لابد للرقابة من جهاز أعلى
للإشراف، وهذا لا يتحقق إلا إذا أصبحت
الأجهزة الرقابية مسؤولة عن ملاحقة
الشخصية الاعتبارية للمؤسسة أو الإدارة أو
الوزارة ومحاسبتها على وضعها المالي
والاقتصادي دون تدخلات من أية أجهزة أخرى،
والانتقال بعدها إلى محاسبة العناصر
البشرية المسؤولة بعد تحديد هذه المسؤولية،
فالموظف أو الإداري يستطيع دائماً الهرب
من المسؤولية بتمييعها، وتبديد معالمها
بين الآخرين، ولكن وضع قواعد ثابتة ومجدية
لمحاسبة المؤسسات بصورة دورية يضع الجميع
أمام مسؤوليات محددة.
المطلوب رقابة نوعية
نحن نعلم أن استمرار آلية الرقابة هو الذي
يوفر الوقاية، ولكن الانتقال إلى مستوى
أعلى للرقابة يؤدي إلى منفعة من جانبين،
أولها توفير الوقاية من ناحية، وضمان
فعالية أجهزة الدولة وإداراتها من ناحية
أخرى، وعلى هذا الأساس، تبدو أن مهمة
الرقابة عسيرة ودقيقة ومعقدة، وتبدو أنها
مضطرة في البلد الذي يشكو من الفساد
والضعف والتسيب أن تتحول إلى رقابة نوعية
تشمل الأمور التالية:
- تنفيذ المشروع الانمائي.
- البرامج الإدارية.
- البرامج الإنتاجية.
- سياسة الموارد.
- الإنفاق العام.
- عدم مخالفة القوانين النافذة.
إن جوهر الرقابة ومفهومها السياسي ليسا
كامنين وراء مهام تقليدية روتينية، ولا في
تجريدات، ومن المفيد جداً أن نتأكد بأن
الرقابة ليست من البنية الفاسدة، أي ليست
جزءاً من المشكلة التي تتولى معالجتها،
لأنه في هذه الحال تبدو المشكلة وكأنها
تدور في حلقة مفرغة ، الرقابة بقيادتها
وعناصرها يجب أن تكون مميزة على الأقل
بنسبة أرفع وأفضل ، ويجب أن تكون من
العناصر التي تتمتع بالخبرة والكفاءة
والمتانة الخلفية التي لا يرقى إليها
الشك.
إن المفهوم الرقابي يجب أن يخضع لتغيير
أساسي، وأن ينتقل من مفهوم المفتش إلى
مفهوم المشرف نحن نستطيع أن نجد عدداً
كبيراً من المفتشين، ولكننا لا نستطيع أن
نجد إلا عدداً قليلاً من المشرفين. لا شك
أنه من الطبيعي أن نلاحق المجرمين
المرتكبين وتعاقبهم دون استثناء، لكن
علينا أيضاً أن نعالج الأسباب الاقتصادية
والاجتماعية التي تعزز ظاهرة الفساد، ولا
يكفي لمعالجة وباء الكوليرا أن نعزل
المصابين مثلاً، بل علينا أن نحاصر
جراثيمها في البيئة، ونقضي عليها بجميع
وسائل التطهير والنظافة والعزل والمداواة،
وهذا هو الدرع الواقي. |