يَفترِض حقّ التقاضي لجهة أحقية
المواطنين في لجوئهم للقضاء وتمكين كل
متقاض من الوصول إليه بغية حصول أصحاب
الحقوق على حقوقهم بأيسر وأسهل السبل لا
تثقله أعباء مالية، ولا تميز بين مواطن
وآخر لأن القضاء، ليس حكراً على المواطنين
القادرين على دفع الرسوم في حين يحرم منه
المواطنون العاجزون عن تحمل هذه الرسوم.
والدستور السوري لم يعط أية سلطة أخرى
الحق في حجب حق التقاضي في موضوع معين من
خلال إرهاقه بأعباء مالية استناداً إلى
قانون تصدره. بل إن الدستور أوكل إلى
القانون أمر تنظيم حق التقاضي وسلوك سبل
الطعن أمام القضاء، دون أن يبلغ هذا
التنظيم حق حجبه أو الانتقاص منه.
بصدور قانون الرسوم والتأمينات والنفقات
القضائية رقم (27) وإلغاء العمل بالقانون
رقم (105) تاريخ (4/10/1953) وتعديلاته،
أثير جدل لكون القانون خالف كل التوقعات
وكسر كل الأرقام القياسية بارتفاع هائل
ومبالغ فيه للرسوم القضائية وأدهش كل من
له اطلاع بالدوائر القضائية، بحيث تجاوز
ما كانت عليه الرسوم في القانون السابق
بعشرين ضعفاً على توثيق الأعمال وتسجيل
الدعاوى ومتابعتها ورسوم الاستئناف والطعن
بالنقض وإعادة المحاكمة، وطلبات التدخل
والاعتراض وتنفيذ أحكامها. كما فرض رسماً
على تصوير أوراق الدعوى بمقدار (خمسين
ليرة سوريّة) للورقة الواحدة، أي أن
الدعوى التي يصل عدد أوراقها إلى مئة ورقة
سيكلف تصويرها مبلغ خمسة آلاف ليرة سوريّة،
كما فُرضت ضريبة على كل إجابة خطية يعطيها
القاضي على ذيل الاستدعاء المقدم إليه
بمبلغ خمسين ليرة سوريّة أيضاً.
وفرضت الضريبة نفسها على كل ورقة يقدمها
المتقاضون في الملف التنفيذي، وفرض أيضاً
نفس المبلغ بشكل تصاعدي بدءاً من خمسين
ليرة حتى ثلاثمئة ليرة سوريّة على كل
توقيع يتم أمام الكاتب بالعدل حسب قيمة
السند الذي ينظمه.
ويرى فقهاء القانون أن الرسم هو شفيع
الدعوى للدخول في الحرم القضائي، فلا يمكن
قبول أي دعوى إلا باستيفاء رسومها وفقاً
للأحكام القانونية النافذة.
والرسوم هذه ترافق الدعوى منذ تسجيلها في
ديوان المحكمة وحتى انتهاء النزاع القضائي
بقرار يجري تنفيذه. بل إن تسديد الرسوم
القضائية هو أحد الشروط القانونية لقبول
الدعوى، وفقا لأحكام المادة (19) من
القانون إياه التي نصت على أن تأدية
الرسوم والتأمينات والنفقات في الحالات
المنصوص عليها في هذا القانون شرط لقيد
الطلبات وإجراء المعاملات وحفظ المواعيد
القانونية تحت طائلة البطلان.
أين وزارة العدل من المحامين ونقابتهم؟
من المأخذ على وزارة العدل حين فرضت قانون
الرسوم أنها لم تناقش أو تنسق بشأنه مع أي
من الجهات والأطراف المختصة مثل نقابة
المحامين إذ يقول المحامي محمد جهاد
اللحام رئيس فرع نقابة المحامين بدمشق (ليس
هناك تعاون أو تنسيق بين نقابة المحامين
ووزارة العدل وأن الوزارة تغلق أبوابها
بوجه نقابة المحامين فما بالك بوجه
المواطنين). وأن قانون الرسوم الذي صدر
منذ فترة وجيزة لم يراع الرفع التدريجي
للرسوم القضائية. ولم يأخذ رأي نقابة
المحامين فيه كما أنه لم يراع الحالة
المادية للمواطن السوري.
ويضيف لو أخذنا حالة سجلات الدعاوى في
ديوان محكمة البداية المدنية في دمشق نجد
بأن آثار هذا القانون تجلت في انخفاض عدد
الدعاوى التي يتم قيدها أمام المحاكم إذا
ما قورنت بعددها قبل صدور القانون
بالعشرات، هل هذا يعني أن القضاء أصبح على
سويّة علمية ومهنية ومن السرعة المتناهية
بحيث لم يعد هناك تراكم للدعاوى؟ أم أن
المواطن أصبح يتمتع بحالة راقية فلم يعد
يلجأ إلى القضاء من أجل الوصول إلى حقه؟
مثال حي:
(شخص يريد أن يطالب بمبلغ «100000» ليرة
سوريّة أمام القضاء سيدفع ما بين الرسوم
القضائية والوكالة مبلغاً لا يقل عن
«15000» ليرة سوريّة، والمحامي سيأخذ سلفة
على الأتعاب «5000» ليرة سوريّة، فيصبح
المبلغ «20000» ليرة سوريّة ويعني ذلك أن
«20 %» من قيمة المبلغ المطلوب دفع ولم
يصل المواطن لحقه بعد، دعوى مخاصمة القضاة
تكلف المواطن أكثر من «50000» ليرة سوريّة.
عندما يظلم القاضي المواطن! وهذا يعني أنه
مجبر على دفع هذا المبلغ من أجل أن يصل
إلى حقه، وقد وقع الظلم والخطأ من القاضي،
وهذا غير مقبول أخلاقياً ولا قانونياً).
قانون الرسوم القضائية مخالف للدستور:
نصت المادة (28) من الدستور التي تنص على:
(حق التقاضي وسلوك طرق الطعن والدفاع أمام
القضاء مصان بالقانون؟).
يقول المحامي بسام ستوت: (على وزارة العدل
الطعن في دستورية هذا القانون لأن الدستور
أتاح حق التقاضي بشكل مجاني، وعلى اعتبار
أن فرض الرسوم يشكل عائقاً أمام مجانية
التقاضي، وبذلك يكون هذا القانون قد سلب
المواطن حق التقاضي المجاني، ولهذا
القانون أثر سلبي بحيث أغلق أبواب المحاكم
أمام شريحة واسعة لا تستطيع دفع تلك
الرسوم).
يقول المحامي زياد عيد (بغض النظر عن كون
القانون الذي صدر دستورياً أو غير
دستورياً، فهو صدر بدون دراسة منطقية،
والرسوم رفعت بشكل غير منطقي، وبنسب غير
واضحة، حيث يوجد اختلاف في تطبيق القانون
بين محكمة وأخرى، ولم يراع وضع المواطن في
البلد من الناحية الاقتصادية، بحيث أن
الدعاوى تضاعفت رسومها عشرات الأضعاف،
فأحجم الناس عن التقاضي، واستعاضوا بأن
أوكلوا أمرهم لله أو أن يأخذوا حقهم
بأيديهم. هكذا فهم الناس رسالة وزارة
العدل بمعنى: (يا ناس خذوا حقكم بأيديكم
وابتعدوا عن القضاء لأنه غير متفرغ لكم)
في الوقت الذي كان على الوزارة التوسع في
دور المحاكم وزيادة عددها حتى تستوعب
المواطنين الذين يزدادون يوماً بعد يوم،
وبدل ذلك، قررت تطفيش المواطنين من
القضاء.
ويتفق المحامي حسان مهرة مع ما ذهب إليه
كل من المحاميين عيد وستوت على أن رفع
الرسوم القضائية بهذا الشكل نوع من أنواع
إنكار العدالة ويضيف: (في رأي وإن كان باب
التقاضي مفتوحاً للجميع ولكن ارتفاع
تكاليف الادعاء وإجراءات التقاضي ورسومها
ستدفع الناس إلى الإحجام عن مراجعة
القضاء. ويبدو أن هذا هو المطلوب والمقصود
من رفع الرسوم القضائية الذي جاء بالتنسيق
بين وزارة العدل ووزارة المالية بدلاً من
معالجة تراكم الأعمال والدعاوى أمام
القضاء بزيادة الكادر القضائي ورفد السلك
القضائي بكوادر جديدة).
مبررات القرار:
في محاولاتنا التي باءت جميعها بالفشل
للوصول إلى أحد المسؤولين في وزارة العدل
من أجل الاستفسار عن مبررات فرض قانون رفع
الرسوم القضائية وما تركته من أثر سلبي
على تحقيق العدالة وإعاقة المواطن عن
ممارسة حقه في التقاضي. سمعنا من بعض
المصادر في الوزارة كلاماً قيل في تبرير
رفع الرسوم إن الهدف منه هو ليس الجباية
المالية بل منع التقاضي الكيدي، وأنه
سيخفف الضغط على المحاكم والقضاة. ولكنه
في نفس الوقت سيحرم الكثيرين من أصحاب
الحقوق من اللجوء إلى القضاء لإنصافهم،
خاصة وإن الغالبية العظمي من المواطنين
فقراء ولا يتمتعون برفاهية مما لا يمكنهم
من دفع رسوم إجبارية كبيرة وصولاً إلي
حقهم.
الاقتراحات:
يرى المحامي محمد جهاد اللحام (من العدالة
إعادة النظر بهذا القانون وبالتعاون
الوثيق فيما بين نقابة المحامين ووزارة
العدل من أجل الوصول إلى قانون يرضي
الجميع ويحقق العدالة بشكل تراعى فيه
مصلحة الدولة في تأمين الموارد ومصلحة
المواطن في ضمان حق التقاضي العادل
واليسير. لأن مهام العدالة ما تزال إحدى
المهام الأساسية للدولة كالصحة والتعليم
المجاني، وحق التقاضي لجميع المواطنين ما
زال حقاً دستورياً).
إن كل الذين استطلعنا أراءهم من المحامين
حول قانون رفع الرسوم القضائية لم يعترضوا
على تكليف المتقاضين بدفع رسوم للدولة،
ولكن بشرط أن يكون هذا الرسم عادلاً
ورمزياً، بما لا يثقل كاهل المواطن، وهو
المثقل أساساً من كثرة الرسوم والضرائب
وغلاء والمعيشة كما أن المواطن في الأساس
يساهم من ماله الخاص بدفع أكثر من نصف
رواتب القضاة ومحامي الدولة وكتاب العدل
من قيمة اللصيقة القضائية.
وقد قدمت اللجنة القانونية المشكلة في
نقابة المحامين دراسة لتعديل القانون فيها
مجموعة من المقترحات وهي كالتالي:
تخفيض الشريحة الخاضعة لرسم نسبي قدره (3
%) أمام محاكم البداية والصلح المدنية
وتخفيض الرسوم المقطوعة والتأمينات بحيث
لا تتجاوز ثلاثة أضعاف ما كانت عليه
بالقانون (105) بالإضافة إلى تخفيض
للتأمينات الواجبة لطلب رد القاضي أو
مخاصمته بحيث لا تتجاوز عشرة أضعاف ما
كانت عليه قبل صدور القانون (27) وإعادة
الحال وترك تقدير الكفالة الحجزية إلى
القاضي مصدر قرار الحجز.
ما أدت إليه زيادة الرسوم القضائية من
سلبيات:
ترتب على رفع الرسوم القضائية بشكل مبالغ
فيه جملة من النتائج السلبية منها:
أولاً: عدم قدرة المواطنين البسطاء، وفي
أغلب الحالات في ممارسة حقهم الدستوري في
اللجوء إلى القضاء للمطالبة بحقوقه نتيجة
لتكاليف الرسوم.
إذ أن بعضهم سيحجم عن المطالبة بحقوقه عن
طريق القضاء وبعضهم الآخر سيتسامح بحقوقه
مرغماً أي أن حقه يسرق أمام ناظريه إضافة
إلى ذلك إحساسه بالمرارة والظلم والعجز
كونه غير قادر على دفع تكاليف اللجوء إلى
القضاء، أو يسعى البعض للحصول على حقوقهم
بطرق غير مشروعة مع ما يحمله هذا الطريق
من أثار ليست في صالح المجتمع وهذه مسألة
يجب ألا يمر احتمالها دون اهتمام حيث لها
نتائج قانونية واجتماعية كثيرة.
ثانيًا: التأثير على عمل المحامين والحد
من دورهم وفتح باب الشك بينهم وبين موكلهم
مما يفسح المجال لزيادة دور المتطفلين من
بائعي الطوابع وكتاب العرائض على عمل
القضاء ومهنة القانون وقيامهم بممارسة دور
المحامي مع جهلهم بالقانون مما يتشعب عنه
إغراق المحاكم بدعاوى فاشلة تذهب بحقوق
أصحابها أدراج الرياح.
عدم المساواة في الرسوم بين القضايا
الشرعية والقضايا المدنية:
لابد من الإشارة إلى الانتقادات التي كانت
توجه للقانون (105) بخصوص عدم المساواة في
الرسوم المترتبة أمام المحاكم الشرعية عما
هو مترتب أمام المحاكم المدنية انتقلت إلى
القانون (27) لجهة فرض الرسم عدة مرات
بحيث أصبح مرهقاً للمتقاضي من أثر تكراره
مع ما للدعاوى الشرعية من خصوصية وارتباط
وثيق بالأسرة التي تحتاج إلى الكثير من
الرعاية والإعفاءات. وهنا يتساءل العديد
من المختصين عن المعيار المعتمد تشريعياً
لجعل رسوم الحكم الشرعي تتضاعف عدة مرات
عنها في الحكم المدني؟
وما هي الأسس المعتمـدة للتفريق ما بين
قرارات المحاكم الشرعية وقرارات المحاكم
المدنية في حساب الرسم. هل هو الجهد
القضائي المبذول في القضية أم هو نوع
الدعوى؟ لم يجد أحد لهذا التفريق من سبب
مقبول بل ذهب البعض إلى أن هناك العديد من
المبررات والأسباب التي تجعل الرسوم
القضائية الشرعية هي الأقل، وليس العكس.
وزارة العدل تحولت إلى جاب للضرائب:
الرسوم القضائية أضحت واجبة بموجب قانون
الرسوم والتأمينات القضائية رقم (27)
بالإضافة إلى القانون رقم (45) لعام
(1976) وهو تشريع خاص بالمساهمة النقدية
في دعم المجهود الحربي (30 %) من قيمة
الرسوم القضائية، كما أصدر المشرع السوري
القانون رقم (35) لعام (2007) المتضمن
الموازنات المستقلة للمحافظات الذي وضع
قيد التنفيذ في العديد من محافظات القطر.
بموجبه أضيف إلى الرسوم القضائية ما نسبته
(10 %) من قيمتها لصالح الموازنة المستقلة
في المحافظة التي تسدد الرسوم القضائية في
دائرتها.
مما تقدم يتبين أن الرسوم القضائية
والضميمة الملحقة بها أضحت تحسب على ثلاث
درجات وفي مختلف مراحل التقاضي والتنفيذ
وهي: الرسوم القضائية والمساهمة النقدية
بالمجهود الحربي ورسوم الموازنة المستقلة
للمحافظة أو ما أطلق عليه رسم الإدارة
المحلية.
وهنا نتساءل إذا ما كانت وزارة العدل قد
تحولت إلى جاب لضرائب لصالح عدة جهات
حكومية. حيث يجيب المحامي زياد عيد (يبدو
أن وزارة العدل ظنت نفسها وزارة للمالية
لأنه في النتيجة المبالغ التي تجبى لا
تعود بالنفع على قطاع القضاء وإنما تذهب
إلى خزينة وزارة المالية.
إذا لابد من ضرورة إعادة النظر بتشريعات
الرسوم والتأمينات القضائية بشكل عام،
لتصبح أكثر توافقا مع أحكام الدستور
الدائم من جهة، ولتواكب التطورات الكبيرة
التي شهدها المجتمع). |