المخابر اللغوية، أو المعاهد الخاصة أو
أي مسمى آخر تختاره لنفسها، عنوانٌ وضعته
مئات المعاهد، التي أغلقت بناءً على قرار
وزارة التربية، التي وصفت رسالتها بأنها
محدَّدة وتعمل على تدارك الضعف الدراسي
عند الطلاب، وتقوية مهارات الطلاب في
مختلف المواد. ولكن، بالتزامن مع هذا
الكلام، خيَّمت شكوك تُفيد بأنَّ المعاهد
عبارة عن مؤسسات ربحية استندت على ضعف
المؤسسة التعليمية الرسمية،
وعاشت بفضل ترهل الحالة التعليمية في معظم
هذه المدارس، وخاصة في بعض المناطق
البعيدة عن المدن، كالأرياف مثلاً. أضف
إلى ذلك أنَّ الآباء وجدوا في هذه المعاهد
ملاذاً لهم من دروس خصوصية شكَّلت عبئاً
اقتصادياً كبيراً. ولكن، ماذا حصل فيما
بعد؛ هل فعلاً قطفت وزارة التربية ثمار
قرارها المثير للجدل، أم ماذا؟..
ظاهرة المعاهد الخاصة بدأ انتشارها في
أواخر الثمانينات، ولكن بعدد محدود جداً،
أما الانطلاقة الأساسية لها فكانت بين
العامين 1995 و1996، لتنتقل بعدها إلى
مرحلة التكاثر العشوائي، وتغزو مختلف
المدن، دون وجود ضابط لها!.. وفي هذه
الفترة، لم يكن هناك تعريف واضح عند
الوزارة يحدّد ماهو المخبر اللغوي (المعهد)،
بالإضافة إلى أنَّ الأصل في النص القانوني
لا يمنع ممارسة التعليم. ومن جهة أخرى، لا
توجد أيّ مادة قانونية تؤكد تبعية المخابر
اللغوية إلى وزارة التربية في تلك الفترة.
وهذا ما سمح، من وجهة نظر بعض المختصين،
بالانتشار الواسع للمعاهد الخاصة، مع
الاشارة إلى نقطة مهمة تتمثّل في أنَّ
المخابر اللغوية حقَّقت أرباحاً هائلة
مقارنة برأسمالها الصغير. وهذا الأمر ساعد
أيضاً في زيادة عدد المعاهد، وخاصة في
المدن الكبرى، لتتحوَّل العملية التعليمية
ضمن المعاهد الخاصة إلى استثمار تجاري بحت،
دخله العديد من الأشخاص الذين هم خارج
الأطر التربوية من باب الاستثمار ضمن هذا
النطاق.
صاحب أحد المعاهد، الذي رفض الكشف عن اسمه،
قال: «وصل ربحي في إحدى السنوات إلى 6
ملايين ليرة سورية». وبيَّن أنَّ «الاستثمار
في معهد خاص كان من أكثر المشاريع نجاحاً
في حياته كلها». إذاً الغاية تجارية لا
أكثر، والجانب التعليمي ليس حاضراً دائماً.
¶ تجاوزات بالجملة
الترخيص، الذي كان يُعطى من وزارة التربية،
يسمح للمخبر اللغوي (المعهد) فقط بتدريس
اللغة الإنكليزبة، خارج المنهاج الدراسي،
بالإضافة إلى تدريس مواد الكمبيوتر. ولكن،
المعاهد اللغوية ارتكبت مخالفات بالجملة.
فجميع المعاهد تجاوزت شروط الترخيص
باستثناءات بسيطة، وتحوَّلت إلى معاهد
خاصة تدرّس مناهج التعليم الرسمي بشكل
كامل، وخاصة للشهادتين الإعدادية
والثانوية. وتمَّ الالتفاف على شروط
الترخيص بطريقة أو بأخرى، من قبل أصحاب
المخابر اللغوية، بأساليب ملتوية ومعروفة
من قبل جميع أطراف العملية التربوية،
لدرجة أنها تحوَّلت إلى عرف عام. ومن
المخالفات الصريحة أيضاً عدد الطلاب
الكبير في القاعة؛ حيث وصل عددهم، في بعض
الصفوف، إلى 30 - 40 طالباً، بينما
الترخيص لايسمح إلا بـ20. كذلك الشروط
الصحية لقاعات التدريس لم تكن مستوفاة في
أيّ معهد.
أبوعدنان (مالك معهد خاص في ضواحي دمشق)،
قال: «لم نكن نعتبر أننا نرتكب مخالفة.
والأمر كان يتمّ بعلم مندوب وزارة التربية،
فقد عيَّنت الوزارة، في جميع المعاهد
الخاصة، مشرفاً تربوياً كان يتقاضى راتباً
من المعهد بحسب شروط العقد، ولم يعترض في
أيّ وقت على العملية التدريسية التي تتم
في المعهد». إذاً المشكلة كانت «على عينك
ياتاجر»، وكان أصحاب القرار في وزارة
التربية راضين، فلماذا تمَّ إلغاء المعاهد؛
هل فعلاً كما تقول الوزارة لإلزام المدرّس
بالمدرسة؟!..
¶ سياسات تضييقية
استمرَّ الموضوع على هذا النحو إلى العام
2004، حيث صدر قرار من المكتب القطري
للتعليم يسمح للمخابر بتدريس المناهج.
وكان لهذا القرار تأثير إيجابي، فقد أسهم،
إلى حدّ كبير، في تنظيم عمل المعاهد
قانونياً، ووضع تعليمات صارمة لعمل
المعاهد الخاصة؛ حيث تمَّ ربطها، بشكل
مباشر، بوزارة التربية. وشدَّد على ضرورة
متابعة الوزارة للعملية التربوية في
المعاهد، من خلال الاختصاصيين والمشرفين
التربويين. وليس هذا فقط، بل منع المعاهد
من العمل أثناء الدوام الرسمي للمدارس
الحكومية. وعليه، فإنَّ المعاهد لم
تتقيَّد بتلك القوانين. ولكن في العام
2008، تمَّ تفعيل قرار القيادة القطرية؛
عندما سيَّرت وزارة التربية دوريات صباحية
لمخالفة المعاهد التي تعمل أثناء الدوام
الرسمي. كذلك قامت الوزارة، في العام
2009، بالتشديد على مراقبة المعاهد الخاصة
في موضوع توظيف المدرسين؛ حيث تبيَّن أنَّ
بعض المعاهد عيَّنت مدرسين لايملكون
شهادات جامعية وغير مؤهلين للعملية
التربوية.
¶ جدلٌ واسع..
الوزارة، وعلى لسان وزيرها، دافعت عن
قرارها، بعد أن عمَّمته على جميع
المحافظات السورية. وتمَّ اتخاذ هذا
القرار لحماية العملية التربوية وكرامة
المدرس على حد وصفها؛ إذ يرى وزير التربية
الدكتور علي سعد أنَّ بعض المعاهد أساءت
إلى العملية التربوية؛ مشدّداً على أنه لن
يكون هناك أيّ استثناء لأيّ معهد، سواء
كان جيداً أم لا، وأنَّ وزارته ستتكفّل
بالبديل، مبيّناً أن هناك قرارات دائماً
تُتّخذ لتصويب الأمور عندما يحين موعدها.
وفي هذا الصدد، أكّد عدد من أصحاب المعاهد
الخاصة أنَّ الوزارة لم تقم بتنفيذ سياسة
تربوبة مبنية على استراتيجية واضحة
الأهداف، إنما الخطوات التي كانت تقوم بها
عبارة عن إجراءات للتضييق، عن طريق تفعيل
قرارات قديمة. ورغم إقرارهم بالمخالفات
التي كانت تقوم بها معاهدهم، لكنهم أصرّوا
على أنَّ الوزارة كانت تستطيع قمعها
بسهولة، مع المحافظة على عمل المعاهد
وتوفير فرص عمل للأساتذة.
أسوأ من سيئ..
المبرّرات العامة، التي قدَّمتها الوزارة
لإغلاق المعاهد الخاصة، كانت تتمثَّل في
تسرّب الأساتذة من القطاع الحكومي إلى
القطاع الخاص، بالإضافة إلى أنَّ نسبة
نجاح التلاميذ في المدارس الحكومية أكبر
بكثير من نجاحهم في المعاهد الخاصة؛ يقول
«أحمد. ع» مدرس لغة في المعاهد الخاصة: «إنَّ
الحجج التي قدَّمتها الوزارة ليست منطقية،
ولست معها. فتسرب الأساتذه إلى المعاهد
الخاصة، جاء نتيجة ضعف المردود المالي
الذي يحصل عليه المدرس من مهنة التدريس في
مدارس الدولة. فبعض المدرسين المعروفين
وصل معدل راتبهم الشهري إلى 70 ألف ليرة
سورية، بينما راتبهم الحكومي لايصل، في
أحسن الأحوال، إلى 15 ألف ليرة سورية.
وكان على الوزارة أن تعالج موضوع رواتب
المدرسين، لا أن تقف في وجه مصدر رزقهم».
في المقابل، هناك فريق يرى أنَّ الطلاب
الذين ينجحون في المدارس الحكومية هم
الذين يتلقّون دروس تقوية في المعاهد
الخاصة، وما كان لنسبة النجاح هذه أن
ترتفع لولا وجود المعاهد الخاصة.
بدر (طالب يدرس في معهد خاص)، قال: «إنَّ
المعاهد كانت تشكّل طوق النجاة للطلاب
الأحرار. وبإغلاق تلك المعاهد، تمَّت
التضحية بهم». وتابع: «إذا كانت المعاهد
الخاصة بهذا السوء الذي يتمّ الحديث عنه
ومع ذلك يرتادها الطلاب بأعداد كبيرة،
فهذا مؤشر على أنَّ المدارس الحكومية أسوأ
من تلك المعاهد».
في وزارة التربية.. يومٌ لكلّ سؤال!! حسن
العقلة
نبحث لنوصل المعلومة الصحيحة والرأي الآخر،
ولنكون جسراً حقيقياً يصل بين المواطن
والمسؤول.. ننقل هموم وشكاوى المواطنين،
ونسمع خطط وبرامج المسؤولين، بما يخدم
مصلحة الطرفين، ويصبّ في نهاية المطاف في
المصلحة العامة للجميع. فهنا، يكون
الإعلام قد أتمَّ دوره بشكل منطقي وسليم.
ولكن، ماذا لو حصل العكس، فمن سيكون
الملام في النهاية؛ المواطن، أم المسؤول،
أم السلطة الرابعة؟!..
الاحتمالات لجواب عن هذا السؤال كثيرة،
ومتعدّدة الأوجه داخل أروقة وزارة التربية.
فبكل بساطة، صدر، العام الماضي، قرارٌ
يقضي بإغلاق كافة المعاهد الخاصة التي
تدرّس مواد المدارس. وهذا القرار أثار
ردود فعل واسعة، وكان له أثر سلبي كبير
على بعض أصحاب هذه المعاهد والمدرسين
والطلاب. وبالإضافة إلى ذلك، لوحظ أنه لم
يُطبَّق بالشكل الأمثل، فكان هناك التفاف
واضح ضيَّع الكثير على عملية التعليم في
البلد. وفي هذا الصدد، تقدَّمنا بطلب إلى
الوزارة للقاء الشخص (المسؤول) المناسب.
وعليه، تمَّ تقديم طلب بشكل رسمي إلى
المكتب الصحفي، بعد إلحاح مدير المكتب على
وضع الأسئلة المطلوبة أيضاً. وبعد مضي
أكثر من ثلاثة أيام، عدنا إلى الوزارة،
لنجد أنَّ الكتاب لم يحظ بتوقيع الوزير.
وبعد انتظار دام أكثر من ساعتين، تمَّ
تقديم طلب جديد إلى السيد الوزير، وإعادة
تقديمه من جديد. وفعلاً قام السيد الوزير
بتوقيع الكتاب مشكوراً منذ الصباح الباكر،
ووجّه إلى معاونه بالإجابة عن أسئلتنا.
لكنَّ الكتاب أبى أن يخرج من دهاليز
الروتين عبر المكاتب، ولم يصل إلى المكتب
الصحفي إلا بعد التدخلات. المهم أنَّ
الكتاب وصل أخيراً إلى معاون الوزير
الدكتور محمد المحمد المعني بالإجابة عن
أسئلتنا، لكن المفاجأة كانت برفضه الإجابة
عن الأسئلة مباشرة، بحجة أنها بحاجة إلى
تدقيق وإحصاءات، ولا يمكن إعطاؤها سلفاً.
وعليه، طلب العودة إليه بعد أسبوع لأخذ
الإجابة عن الأسئلة.
إذا كانت الإجابة عن ستة أسئلة (هي في صلب
عمل معاون الوزير) تحتاج إلى أسبوع، فنحن
نعتقد أنَّ قراراً مصيرياً ومثيراً للجدل،
كإغلاق المعاهد الخاصة، بغض النظر عن
صوابه أو خطئه، كان يحتاج، وفقاً للعقلية
هذه، إلى سنوات لصدوره!!.. فلِمَ كل هذه
العجلة؟!!..
¶ الهروب نحو الأمام
وزارة التربية قامت بإغلاق نحو 1000 معهد
خاص، وسط أقاويل تُفيد بأنَّ هذه الخطوة
هي بمثابة الهروب نحو الأمام. فبدلاً من
حلّ الأزمات التي تواجه التعليم الحكومي
وتدفع بالطلاب إلى الذهاب نحو التعليم
الخاص، قامت الوزارة بخطوة استئصالية
ألحقت الضرر بعدد كبير من الأساتذة
والطلاب. وكان من الأجدى أن تقوم الوزارة
بخطوات إصلاحية، مثل تحديث المناهج،
واعتماد طرق حديثة في التعليم، بالإضافة
إلى تحسين دخل المدرسين. فالوزارة تمتلك
المقدرة للسيطرة على عمل المعاهد الخاصة
بدلاً من إغلاقها بشكل قسري.
¶ خطط بديلة للمدرسين
من خلال جردة سريعة جداً، يلاحظ من خلال
هذا القرار أنَّ عدد المدرسين المتضررين
وصل إلى نحو 7 آلاف مدرس، على اعتبار أنَّ
كل معهد كان يضمّ 7 أساتذة بأقل تقدير،
علماً بأنَّ معظم مدرسي المعاهد الخاصة هم
مدرسون في المدارس الحكومية. ولكن المعاهد
الخاصة كانت تشكل بالنسبة إليهم مردوداً
مالياً جيداً يضمن للمدرس حياة ميسرة.
وقرار الإغلاق أدّى إلى خصم جزء كبير من
المورد المالي لهم.
تمام مبارك (مدرس رياضيات)، قال: «المعاهد
الخاصة ضمنت للمدرسين دخلاً شهرياً جيداً
جداً. وهذا الدخل رفع من القيمة
الاجتماعية للمدرس، وغيَّر كثيراً النظرة
إلى مهنة التدريس. وقرارالإغلاق أثر
كثيراً على المدرسين، خاصة في الجانب
المادي. والعديد منهم أصبحوا يعتمدون،
بشكل كامل، على إعطاء الدروس الخصوصية
بشكل أكبر. ولا أعتقد أنَّ الوزارة سوف
تستطيع منع الدروس الخاصة. وفي معظم
الأحيان، تحوَّلت الدروس الخاصة إلى حلقات
تدريسية في منزل أحد الطلاب. ولا أعتقد
أنَّ الوزارة قادرة على منع هذا النمط من
التعليم أيضاً».
الوزارة أغلقت المعاهد، لكنَّ أبواب هذه
المعاهد لا تزال مفتوحة في أغلب المناطق،
وخاصة في الريف البعيد؛ كحلّ لمئات الطلاب
(الأحرار) الذين لم يحالفهم الحظ بالمدارس
الحكومية، وكذلك حتى لا يغلق باب رزق أغلب
المدرسين الذين تخرجوا في الجامعات ولم
يجدوا مكاناً لهم في مدارس وزارة التربية.
وانطلاقاً من هذا الجانب، اعتبر الخبراء
المختصون أنَّ القرار جاء في حالة مزدوجة،
ولم يكن في التوقيت الصحيح، بل إنَّ هذا
القرار يعتريه الكثير من الأخطاء، التي من
واجب الوزارة تصحيحها؛ يقول الدكتور محمد
خير الفوال (أستاذ في كلية التربية): «هذا
القرار يحتمل الخطأ والصواب، وفقاً لطريقة
تفسيره. وهناك بعض الأخطاء التي كان من
الواجب تلافيها في هذا القرار. فهو في
الأصل صائب، لكن طريقة تنفيذه شابتها
العديد من المشكلات». وأضاف الدكتور فوال:
«المناهج، منذ القديم وإلى وقتنا الحاضر،
رائعة جداً، ولكن طريقة التعليم هي التي
كانت تدفع الطلاب للالتحاق بالمعاهد
الخاصة»، مؤكداً أنَّ «على الوزارة أن
تقيم دورات تدريبية للأساتذة من أجل
تدريبهم على وسائل التعليم الحديثة»،
مشيراً إلى أنَّ «بعض الأساتذة كانوا
يتقصَّدون عدم إفهام الطلاب في المدرسة،
وذلك من أجل دفعهم إلى المعاهد الخاصة أو
إلى الدروس الخصوصية»، مؤكداً ضرورة تحسين
وضع المدرسين المادي.
وفيما يتعلق باستراتيجيات الوزارة بالنسبة
إلى المستقبل، قال فوال: «الوزارة تمتلك
خططاً من أجل المستقبل، وهي لا تأخذ
قرارات اعتباطية. والقرار جاء لتلافي جميع
الأخطاء السابقة، التي كانت تحصل في
المعاهد الخاصة». |