غريب أمر السياسة، بل هذا النوع من
السياسة تحديداً، في لبنان في هذه الفترة.
فلم يسمع أحد من العاملين في هذا الحقل ما
قاله الرئيس سعد الحريري في مهرجان "البيال"،
في الذكرى السادسة لاغتيال الرئيس الشهيد
رفيق الحريري، لجهة محتوى المسعى السعودي
ـ السوري، وانكبوا بدلا من ذلك على تشريح
لهجة الخطاب والنتيجة التي انتهى اليها
بعد ما يقرب من عامين من الأخذ والرد حول
"المحكمة الخاصة بلبنان" وسلاح "حزب الله"،
فضلا عما تضمنه من صدق في النوايا من جهته
واصرار على حرف المسعى عن مساره وتشويه
الوقائع على الأرض من الطرف الآخر.
"هذه المبادرة (المسعى السعودي ـ السوري)
كانت قائمة على فكرة واحدة وأساسية: اننا
وبكل صدق مستعدون للمشاركة في مؤتمر
مصالحة وطنية، يتصالح فيه كل اللبنانيين
ويتسامح فيه كل اللبنانيين. مؤتمر يعقد في
الرياض برعاية الملك عبد الله، وبحضور
الرئيسين ميشال سليمان وبشار الأسد وعدد
من الرؤساء العرب وقادتهم والجامعة
العربية، يؤدي الى مصالحة ومسامحة شاملتين
لكل الماضي، مصالحة الجميع وتسامح الجميع
من دون استثناء عن كل الماضي، وتصبح بعدها
تداعيات القرار الاتهامي مسؤولية وطنية
وعربية جامعة".
هل عنى كلام الرئيس سعد الحريري هذا شيئا
بالنسبة الى السياسيين، وخصوصاً المعنيين
منهم به وبما كان عليه الحال في المرحلة
الماضية كلها؟. أبدا. قال أحدهم ان الرئيس
الحريري كان في تلك الفترة يتنقل بطائرته
كسائح في عواصم العالم، بينما كان
اللبنانيون يتضورون جوعا وينتظرون من
الحكومة أن تحل مشكلاتهم. وقال ثان ان
الحريري كان يلعب لعبة الوقت أملا منه في
أن يصدر القرار الاتهامي عن المحقق الدولي
قبل وصول المسعى السعودي ـ السوري الى
نهايته. وقال ثالث انه اذا كان الحريري
يريد اعلان حرب على المقاومة فليفعل ما
يحلو له أن يفعل و... و... من دون أن يكلف
أحد نفسه قول كلمة واحدة عن النقطة
الأساسية في الخطاب: مؤتمر المصالحة
والمسامحة الذي بدا أنهم لم يكونوا
يريدونه أصلا، أو أنهم عملوا في النهاية
على قتله في المهد.
ولكن، لماذا لم يكونوا يريدونه أصلا، أو
لماذا عمدوا الى قتله؟.
لعل هذا هو السؤال الذي يطرحه اللبنانيون
على أنفسهم الآن، وبالذات لأن المعنيين به
لاذوا بالصمت، فلم يروا فيه لا حلا لمسألة
السلاح التي تدور في فراغ منذ بدء الحوار
حوله في العام 2006، ولا حتى تسوية
لتداعيات القرار الاتهامي بعد صدوره، وأيا
كانت التهم وأسماء المتهمين والأدلة التي
سيتضمنها.
هل كانوا يريدون فعلا حل مسألة السلاح،
عبر الاتفاق على استراتيجية دفاع وطنية أو
من دونها، وتسوية تحول دون فتنة مذهبية
يخشونها ويسعون الى انقاذ البلد منها كما
يقولون؟، واذا كانوا يريدون فعلا، فلماذا
عملوا دائما على تحريف الحقائق وأثاروا من
الغبار (فضلا عن المطالب) ما أثاروا طيلة
الفترة الماضية، ليدفعوا بالمملكة
السعودية أولا وبالرئيس الحريري ثانيا الى
إيقاف المسعى من أساسه؟.
أم أن القضية كلها هي أنهم، ورعاتهم
الاقليميين من خلفهم، لا يتصورون امكان
عقد مؤتمر للمصالحة والمسامحة اللبنانيتين
ـ في الرياض أو حتى في غيرها ـ لأنهم
يرغبون في العمق في ابقاء لبنان على ما هو
عليه منذ عقود: ساحة لتصفية الحسابات
الاقليمية والدولية، ولو على حساب
اللبنانيين وطموحاتهم في العيش بحرية
وسلام وكرامة؟.
واقع الحال ان قراءة مغلوطة (بل يمكن
القول انها متعمدة) للوضع في المنطقة، وفي
لبنان، منذ مبادرة الملك عبد الله بن عبد
العزيز في قمة الكويت الاقتصادية الى
اعلان أن "عفا الله عما مضى" واقتراح بدء
مرحلة جديدة من التعاون في المنطقة
العربية. يومها، شاع القول ان ما يسمى "فريق
الممانعة والمقاومة" في المنطقة حقق
انتصارا ساحقا على ما أطلق عليه اسم "المشروع
الأميركي ـ الاسرائيلي للشرق الأوسط
الجديد"، وتاليا في المنطقة كلها ولبنان،
ليبدأ العمل على توزيع المغانم (كما هو
الحال الآن في ما يتعلق بإقالة الحكومة
اللبنانية) وأن ما كان قبل ذلك لا يمكن أن
يعود على الاطلاق.
في لبنان، ارتفعت الأصوات الثأرية بأن
انقلابا كاملا ونهائيا على "انقلاب العام
2005" لا بد أن يحصل، وبأن على الطرف
الآخر أن يعترف بهزيمته الكاملة من جهة
وأن يستسلم لموجبات الانقلاب الجديد من
جهة ثانية، وفي محصلة ذلك كله أن يجري
إلغاء "المحكمة الخاصة بلبنان" باعتبارها
"خطيئة" ينبغي التراجع عنها، وتنظيف
الحياة السياسية والأمنية والادارية من كل
ما علق بها خلال الفترة الماضية.
في هذا المناخ الموبوء طائفيا ومذهبيا
وسياسيا، وغير المنطقي في قراءة الوضع في
المنطقة وفي لبنان، كانت المبادرة التي
عرفت بـ"س.س" وكانت معها التهديدات بالويل
والثبور فيما لو لم يتم "التوقيع" قبل
موعد صدور القرار الاتهامي، وخصوصاً
التسريبات الاعلامية عن تنازل هنا وتنازل
آخر هناك، وصولا في المدة الأخيرة الى
تعطيل الحكومة تحت عنوان ما يسمى "شهود
الزور" ثم اقالتها بالطريقة التي تمت بها
كما تم بها نفسها في وقت لاحق تكليف
الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة العتيدة.
كانت الصيغة، كما قال الرئيس سعد الحريري
في خطابه في مهرجان "البيال"، أن يتم
تحضير المشهد السياسي اللبناني لعقد مؤتمر
شامل للمصالحة والمسامحة، تكون مسألة
تداعيات ما بعد القرار الاتهامي ومسألة
السلاح وغيرهما جزءاً منه، الا أن الطرف
الآخر كان عمليا في مكان مختلف تماما
وبذهنية مناقضة لذلك على طول الخط.
ولعله من هنا تحديدا، بل ومن هنا فقط ومن
دون أي سبب آخر، ساد صمت أشبه ما يكون
بصمت أهل الكهف بازاء ما قاله الرئيس
الحريري في خطابه عما انتهى اليه المسعى
السعودي ـ السوري، وبالذات عن "خطأ"
المقاربة الصادقة التي التزمها الحريري
شخصيا لجهة ما يفترضه المسعى طيلة فترة
الشد والجذب الطويلة التي عاشها مع الطرف
الآخر... بل وتشويه الحقائق، ورفع سقف
المطالب من حين الى آخر، والدفع في نهاية
المطاف باتجاه مناقض تماما لهدف المسعى
نفسه: ايجاد حل نهائي للمأزق اللبناني
المستمر منذ عقود.
هل يمكن للطرف الآخر، بل هل يجرؤ في واقع
الأمر، على أن يقول كلمة واحدة في الرد
على هذه النقطة البالغة الأهمية من الخطاب؟.
لا بالتأكيد، لسبب بسيط جدا هو أن ما كان
يبتغيه من مجمل العملية ليس سوى تسجيل ما
يعتبره انتصارا لـ"الخط"، بحسب تعبير
أحدهم في المدة الأخيرة، وإبقاء لبنان
ساحة مفتوحة للاعبين الاقليميين. |