الجدل
الدائم حول الميزان المائي والتخوف من
التعرض إلى مزيد من تراجع كميات الهطل
المطري، لا يستوجب فقط تنظيم الندوات
والمؤتمرات وصوغ برامج الترشيد والتقنين
في استخدامات المياه، وإنما يتعيَّن البحث
عن حلول جدية من شأنها الوقوف بوجه كل
الاحتمالات المتوقعة، وخاصة لجهة توفير ما
يلزم الزراعة من المياه، إلى جانب حاجة
السكان من مياه الشرب، فأزمة المياه التي
تستحوذ على اهتمام المؤسسات الرسمية
والرأي العام في آن، لم تعد مجرّد تكهنات
أو توقعات تصدر عن مهتمين يركبون موجة
التشاؤم، وإنما هي حقيقة فعلية تقرها
الأرقام الرسمية وتعترف بها المنظمات
العربية والدولية، ففي تقرير صدر عن
المنظمة العربية للزراعة، أشار وبلغة لا
تقبل التشكيك، إلى أنّ موقع سورية المائي
هو ضمن قائمة بلدان المناطق الجافة أو شبه
الجافة، وفي ورشة الإدارة المتكاملة
للحياة التي عقدت في دمشق عام 2008، تمَّ
التأكيد على أنّ سورية ستقع ضمن خط الفقر
المائي عام 2013، وما جاء في تقرير
المنظمة أو في ورشة الإدارة المتكاملة
للحياة، ليس بحاجة إلى قرائن أو براهين،
خاصة وأن الأمثلة في هذا الجانب أكثر مما
تعد أو تحصى، فكميات الحبوب المنتجة
والمسوقة خلال المواسم الأخيرة لم تكن قد
وصلت إلى أكثر من ثلث الإنتاج المتوقع أو
المخطط، ما يعني أنّ المشهد الزراعي الذي
يمثل الأمن الغذائي أصبح في حالة تراجع
وانحسار بعد أن كان يشكل عنصر القوة
الأساسي في الاقتصاد السوري، كما أن ساعات
تقنين مياه الشرب في معظم المدن
والمحافظات تشهد المزيد من التزايد، ففي
مدن كبر مثل دمشق وحلب واللاّذقية بالكاد
تصل المياه إلى السكان لمدة خمس ساعات في
اليوم، وبعض الأحياء والمناطق مثل ريف
دمشق قد لا تصلها المياه لمدة ساعتين على
مدار أيام الأسبوع. وبالمناسبة ثمة من
يتوقع، أنّه فيما لو استمرت موجة الجفاف
على حالها، فإنَّ ساعات تقنين مياه الشرب
قد تتواصل ولساعات أطول من سابقاتها.
من الطبيعي أن يسأل البعض.. ولكن ماذا
بمقدور وزارة الري أو مؤسسة مياه الشرب أن
تفعل سوى المضي بالحلول التقليدية
والمألوفة الممثلة بشد الأحزمة من خلال
زيادة عدد ساعات التقنين؟!
في حال الوقوف مطولاً عند هذا الجانب
الأساسي، سنجد أنّ المرجعيات الرسمية ورغم
إدراكها وتلمسها لمخاطر شح المياه وتراجع
المخزون المائي في باطن الأرض وانحسار
المساحات الزراعية، فهي تلكأت كثيراً في
تنفيذ وترجمة الوعود التي بادرت في
الإعلان عنها على مدار سنوات، فمشاريع جر
المياه من محافظة إلى أخرى مثل مشروع الجر
من أعالي العاصي، ما زالت مجرد وعود، وذلك
على الرغم من تأكيد خبراء المياه لأهميتها
وضرورتها في توفير مياه الشرب لبعض المدن
والمحافظات الجنوبية، كما أنَّ ثمة حاجة
ماسة لتشييد المزيد من السدود في أكثر من
محافظة وخاصة تلك الواقعة في المحافظات
الساحلية، فبسبب قلة عدد السدود وعدم
كفايتها في استيعاب مياه الأمطار، فإنّ
أكثر من (50) بالمائة من هذه المياه تذهب
إلى البحر ولا يستفاد منها بقطرة واحدة.
وإذا كانت الحاجة ماسة وضرورية لمشاريع
الجر وتشييد المزيد من السدود والأقنية،
فالجانب الآخر والذي لا يقل أهمية عن
سابقه يتمثل في ضرورة الوقوف بوجه منع حفر
الآبار الارتوازية بشكل عشوائي وغير
مدروس، وذلك بسبب ما تشكله هذه الآبار من
تهديد فعلي وحقيقي على مخازين المياه
الجوفية في باطن الأرض، ففي إحصائية رسمية
صدرت عن وزارة الري منذ وقت قريب، أشارت
أنّ هناك أكثر من (200) ألف بئر مخالفة
على مستوى القطر، وهذا الرقم رغم أنّه ليس
عادياً ويفوق كل التوقعات والتقديرات، ثمة
اجتهادات أخرى ومن داخل الجهات الرسمية
نفسها، تشير إلى أنّ الرقم قد يكون
مضاعفاً ويصل إلى حدود (400) ألف بئر
مخالفة، وهذا الرقم غير مستبعد ما دام أن
هناك من يتستر على المخالفين، وما دام أنّ
الفساد والمحسوبيات وشراء ذمم الموظفين في
البلديات يتيح الفرصة لانتشار الآبار
مقابل تسديد أتاوات تسمى بـ"المعلوم"..
وهذا "المعلوم" بات مغرياً في أعقاب صدور
التشريع المائي الذي يمنع حفر الآبار إلاّ
بعد الحصول على موافقة رسمية من المرجعيات
الرسمية، والمؤسف أنّ هذه الآبار التي يتم
حفرها في ضوء النهار وتحت جنح الظلام، ليس
الغرض منها ري المساحات الزراعية ولا
إحداث المشروعات الصناعية أو الاستفادة من
مشروع استثماري جديد، وإنما هي عبارة عن
آبار تعود إلى مزارع خاصة وإلى أصحاب
عقارات اصطيافية، بادر أصحابها بتشييدها
بهدف الترفيه والاستجمام وتأجيرها
للمصطافين، ومن يقوم اليوم بجولة ميدانية
في محافظة ريف دمشق وبالقرب من ما تبقى من
غوطة دمشق، سوف يلحظ، أنّه وخلال الصيف
الحالي على وجه التحديد الذي تزايدت فيه
درجات الحرارة إلى حدود غير مسبوقة، كانت
قد تنامت ظاهرة تأجير واستثمار المزارع،
حيث يقوم أصحابها بتأجيرها بمبالغ تصل إلى
حدود مئات الآلاف شهرياً بعد أن وصلت أجرة
اليوم الواحد إلى حدود (10) آلاف على أقل
تقدير، مرشحة للارتفاع أو الانخفاض وذلك
تبعاً لموقع المزرعة ومساحتها والتجهيزات
المتضمنة فيها، وهذه المزارع لا يقصدها
الناس أو شريحة بعينها من المجتمع إلاّ
لأنها تحتوي على مسابح ضخمة لا هدف منها
سوى البذخ والهدر وتأمين الأجواء الرطبة
للذين يقصدونها، وحسب بعض الأرقام
المتداولة، فإنّ المسابح المتوضعة فقط ضمن
هذه المزارع، تستنزف سنوياً أكثر من (300)
مليون متر مكعب من المياه، وهذا الرقم
العملاق جاء نتيجة تشييد هذه المسابح بطرق
متخلفة وغياب الشروط الفنية التي تضمن
فلترة المياه على مدار الساعة، أي بسبب
عدم الفلترة يتم تبديل المياه كل يومين أو
ثلاثة مرة، مع أن استبدالها غالباً ما يتم
كل أسبوعين أو ثلاثة، وعمليات الاستبدال
خلال مدة زمنية قصيرة غير مسموحة حتى في
البلدان الفنية في المياه نظراً لما يشكله
هذا الاستبدال من هدر وتبديد، وبالمناسبة،
فإن التشريع المائي الذي صدر خلال عام
2005، وترك الكثير من الارتياح كونه أقر
مجموعة من العقوبات، هذا التشريع وللأسف
ولد ميتاً وما زال معطلاً، مع أنّه عالج
بكثير من الشفافية والموضوعية كل ما يتعلق
بآليات استثمار المياه، فالمادة رقم (26)
من التشريع، أقرت صراحة حصر منح موافقات
حفر الآبار بالسيد وزير الري مباشرة منعاً
للتجاوزات، كما أنّ ذات المادة فرضت
عقوبات رادعة بحق الذين يتجاوزون الشروط
الصحيحة لاستثمار المياه، لكن كل هذه
المضامين بقيت مجرد حبر على ورق، كون
الاستمرار في حفر الآبار المخالفة ما زال
على حاله وكأن التشريع المائي لم يصدر من
أساسه.
ومظاهر تبديد وهدر المياه لم تعد تنحصر في
حفر الآبار الارتوازية فقط، وإنما هناك
شواهد أخرى لا حصر لها، فالري الحديث الذي
يوفر أكثر من (80) بالمائة من مياه الري
اللازمة للزراعة، ما زال مجرد أمنية وفشلت
الحكومة فشلاً ذريعاً في إجبار المزارعين
على المضي بهذه التقنية الحديثة، رغم كل
ما قدمته من تسهيلات وإغراءات أبرزها:
إعفاء الفلاحين من الرسوم والضرائب في حال
الحصول على قروض مصرفية بهدف التحول إلى
هذا النمط من الرأي. ويكفي الإشارة أن
كميات المياه المستخدمة في الزراعة تصل
إلى نحو (78) بالمائة من إجمالي
استخداماتنا للمياه، ما يعني أن توفير
(80) بالمائة في الري الحديث، سوف يسهم
فعلياً في تحقيق الوفر المائي لجهة مياه
الشرب..، كما أنّ شبكات مياه الشرب بدورها
ما زالت متخلفة وثمة الكثير من التقاعس في
العمل على تبديلها وصيانتها بين حين وآخر،
ما يؤدي إلى هدر كميات تفوق أكثر التوقعات
تشاؤماً، فحسب أرقام تمَّ تداولها مؤخراً،
فإنّ الكميات التي تهدر سنوياً بسبب تخلف
الشبكات فقط، تصل إلى نحو (40) بالمائة من
إجمالي المياه المتاحة وبلغة أدق وأكثر
وضوحاً، تقدر الكميات بأكثر من (365)
مليون متر مكعب سنوياً، يضاف لها طبعاً،
الكميات المهدورة في الاستخدامات المنزلية
وفي الشركات والمؤسسات الحكومية والحدائق
والمتنزهات، وكل ذلك في وقت نحن بأمس
الحاجة لكل قطرة ماء مهدورة، خاصة بعد أن
بدأ العطش يطرق أبواب مدينة دمشق التي
تحمل في باطنها أكثر من ثلث سكان القطر..
والسؤال: هل ثمة صحوة قريبة قبل أن يقع
الفأس في الرأس؟! |