لا يخطئ
من يعتقد أن تقدم الأساليب العنيفة يعود
في أحد أسبابه إلى تفاقم الأزمات
الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها معظم
المجتمعات العربية، وأوضح تجلياتها تردي
الأوضاع المعيشية، وارتفاع معدلات
البطالة، وانتشار الفساد والأنشطة
الطفيلية، وإذا أضفنا العجز الحكومي عن
تقديم حلول لهذه المشكلات، وتنامي شعور
الناس بأن فرص الحفاظ على شروط حياتهم
ومصالحهم تتراجع، يمكننا أن نفسر جو
التشاؤم واليأس والرفض السائد، خاصة لدى
الشباب، الذين يمثلون أكثر من نصف
المجتمع، ولا نذيع سراً في القول إن أكثر
أعضاء الجماعات التي تعتمد العنف والإرهاب
تنتمي إلى الفئات الشبابية، من الطلبة أو
الفتية العاطلين أو العاملين في مهن
هامشية.
إن سوء شروط الحياة الاقتصادية
والاجتماعية، عامل مهم يمهد الطريق إلى
جعل العنف الأداة الأوضح للممارسة
والسلوك، فالشحنة العدوانية والانفعالات
المتوترة هي نتاج لواقع نعيشه وأهم
حوافزها ضغط العوز والحاجة، والخوف من
المستقبل ولنقل الشعور بفقدان الأمل
واللاجدوى، ويعمق هذا الخيار الانعكاسات
السلبية لاختلال العدالة، إن في الحفاظ
على حقوق الناس، أو في توزيع الثروات، ما
يؤدي إلى تفاقـــم الإحساس بالظلم
والحرمان وإلى سخط وغضب ضد الواقع القائم
والتطلع نحو تبديله، وغالباً ما تصطدم
الرغبة في التغيير عند الكثيرين بواقع
العجز المزمن سياسياً عن الفعل والتأثير
وتنعكس حنقاً وعنفاً في علاقتهم بمحيطهم
ومجتمعهم، ليبدو سلوكهم الانفعالي ربما
شكلاً من أشكال التعويض النفسي والمعنوي.
من جهة ثانية، لا يمكن تفسير ارتفاع منسوب
العنف في مجتمعاتنا بمعزل عن المناخ
العالمي وبيئته الراهنة التي يحكمها صراع
نفوذ حاد، أدواته الحروب وآليات السيطرة
بالقوة، وما يزيد الطين بلة ويعزز الشعور
بالقهر وعدم القدرة على تعويض العجز،
التدخل الكبير في مسارات النزاعات الأهلية
من قبل أطراف خارجية أو إقليمية، وأيضاً
تكرار الصور المؤلمة التي تبث عما يخلفه
العنف السياسي والاجتماعي في غير بلد
عربي، وبخاصة انه ليس قيمة جديدة في الوعي
الجمعي العربي، فقد ساهم في تغلغلها
وترسيخها، تاريخنا المشبع بآليات القمع
والقهر، وبحروب شتى، الحروب العربية
الإسرائيلية المتكررة، الحرب العراقية
الإيرانية، حربا الخليج الأولى والثانية
ناهيكم عما شهدته وتشهده بلدان عربية من
حروب أهلية كحرب لبنان ثم الصومال واليمن
والسودان وغيرها. وثمة سبب ثالث لتنامي
نزعات العنف يعود إلى انتشار ظواهر
التعصب، بفعل خصوصية تطور الفكر العربي
وتاريخه المفعم بتنافس مرضي على الهويات
الإيديولوجية وصور الالتزام الأعمى بها،
ومن المنطقي أن يفضي الإحساس بامتلاك
الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل لا
من أمامها ولا من ورائها، إلى رفض قناعات
الآخرين وحقائقهم، وتسويغ ممارسة العنف ضد
من يرفض هذه الحقيقة وشرعية احتكارها،
ويكون رد الفعل المقابل هو المزيد من
التعصب لقناعات الذات وأفكارها، لندور في
حلقة مغلقة من التعصب والعنف يصعب كسرها
والخروج منها.
والحقيقة، أن الثقافة العربية لا تزال
عموماً ثقافة تستند إلى الكليات
والإيديولوجيات، والفكر السياسي تالياً لا
يزال يشتغل على النصوص لا على الواقع،
يعيد اجترار نفس المفاهيم ويحوم على
الاختلافات ذاتها، بسبب تمسكه المتزمت
بمرجعيته السلفية، ليس فقط السلفية
الدينية بل نجدها عند مفكرين يدعون إلى
تبني قيم الغرب ومفاهيمه وعند الشيوعيين
أو القوميين بتكرار مقولات عتيقة ومحاولة
الترويج لنماذج تم تجريبها في بلدان أخرى،
وما سبق يساعد على تعميم روح الإلغاء
ونكران حقوق الآخر، ويبيح ممارسة العنف ضد
الرأي المختلف في محاولة لقمعه وإقصائه من
أداء دوره في السياسة وفي الحياة.
وإذا جاء الكثير من المفاهيم والأفكار
السائدة في ثقافتنا، استجابة لظروف معينة
عشناها ولتحديات وأسئلة عرفناها، إلا أن
المشكلة اليوم في تعليبها وتحنيطها ضمن
رؤى وتفسيرات يدعي أنصارها أنها تصلح لكل
زمان ومكان، لتمنح صفة الثبات والإطلاق
وتتحول مع مرور الزمن إلى قيم مقدسة أو
شبه مقدسة، غير قابلة للنقد أو المراجعة،
ويستحق الدفاع عنها ونصرتها عند أصحابها
باستخدام كل الوسائل بما فيها أعمال العنف
والترويع والتخويف، في ظل عطالة كبيرة
ولنقل عجز مزمن لدى غالبية القوى السياسية
في مراجعة هذه الأفكار المتوارثة، وتجديد
مفاهيم ومضامين قابلة لمسايرة الحضارة
الحديثة والاندماج فيها.
أخيراً، لعل أوضح اجتهاد وأكثره صوابية هو
رد تنامي ثقافة العنف إلى طبيعــــة
الأنظمــــة الحاكمة والمناخ السياسي الذي
فرضته، حين غيبت الديموقراطية ومكنت نفسها
بأساليب القمع والإرهاب، وبررت ممارساتها
وارتكاباتها بحجة الذود عن قضايانا
المصيرية، وتستمر اليوم تحت عنوان الحفاظ
على الأمن والاستقرار السياسي، في رفض
التنوع والتعددية السياسية وتهميش الرأي
المختلف.
وإذ نتفق على أهمية الأمن والاستقرار في
المجتمع، فهناك استقرار واستقرار، ويقوم
الاستقرار الحقيقي على قبول المواطن
الطوعي للسلطة ومنحها ثقته جراء كفاءتها
في تحقيق مصالحه وجدارتها في صون كرامته
وضمان حقوقه وحرياته، في حين يبــدو
الاستقرار الذي يتحقق نتيجة القمع
وإجبـــار الناس على الاستكانة والخنوع
وهو ما عرفناه في الأنظمة الشمولية،
استقراراً شكلياً وهشاً أكدت التجارب
التاريخية سرعة انهياره عند أول امتحان.
والنتيجة، إن رفض السياسة واستخدام وسائل
القهر لضمان السيطرة، يشجع من لا يمتلكها،
على التعصب ومعاداة الآخرين، وصولاً إلى
احتقار السياسة بدوره واستخدام أساليب
القوة لنبذ الآخر وإقصائه، فمقابل انحطاط
السياسة وتغييب دورها يحضر السلوك المتخلف
والردود المتوترة والمتمردة، ومقابل تضييق
هوامش الحريات واحترام التعددية وحقوق
الإنسان يتهدد الاستقرار، وترتفع درجات
التوتر الأهلي، وتتشجع العصبيات على
التناحر والاقتتال.
ويبـــدو أن سيطـــرة حكومات عربية قامت
على الوصـــــاية والاستئثار واحتكار
القوة، وما نجم عنها من تضييق فرص ممارسة
النشاط العام، وانحسار دور المؤسسات
القــــادرة علــــى معالجة مشاكل الناس،
فضــلاً عن ضعف المعارضات السياسية
العـــربية جراء القمع المركز ضدهــــا
وعجــــزهــــا عـــن فرض نفسها كطرف
فاعــــل ومؤثر، شكلت عوامل متضافرة أفقدت
الناس ثقتهم بالعمل السياسي وقادتهم،
بصـــورة فطرية، إلى الإحباط والإحساس
باللاجدوى وغالباً إلى إثارة خلافات
وصراعات لا طائل منها وعبرت عن رفضها
بأساليب القوة والعنف؟!..
إن ما تعيشه مجتمعاتنا اليوم مع تنامي
ثقافة العنف هو وضع شاذ وغير مقبول يفترض
التعامل معه بجدية ومسؤولية، وبداية نشر
ثقافة تقول من دون ملل أو تهاون بأن
الأعلى والأنبل في دنيانا هو الكائن
الإنساني أياً كان رأيه أو انتماؤه أو
منبته، وتعتبر التعددية والخلافات في
الرأي أمراً مشروعاً وطبيعياً في المجتمع،
لا تعالج بالعنف والقمع، بل بالحوار
والتوافق واللجوء إلى الآليات
الديموقراطية وتحكيم مؤسسات الدولة والرأي
العام، وتالياً بالعمل الدؤوب لنصرة قيم
فكرية وأخلاقية جديدة، تظهر موقفاً
مبدئياً وحاسماً ضد أساليب القمع والعنف
في إدارة الصراع السياسي وترفض كل محاولات
الإقصاء والاستفزاز وإثارة الحقد والبغضاء
ودعوات التفرقة والتحشيد المتخلف الطائفي
أو المذهبي، أو العمل بالحد الأدنى، وهذا
أضعف الإيمان، وفق المثل القائل، إذا لم
تستطع منع طيور العنف من التحليق فوقك
تستطيع على الأقل منعها من أن تعشش في
رأسك!!.
*كاتب سوري. |