يكاد دوي الرصاص يغطي على الكلام عن
الإصلاح في سوريا الذي تعهّد بإنجازه
الرئيس بشار الأسد، ويطوي صفحة الحوار
الذي شكّل له لجنة رئاسية لم يُنشر شيء عن
جدول أعمالها وعن المدعوين ليشاركوا فيه،
ولا خاصة عن موعد محدد للإنجاز.
تغطي الأحداث الأمنية كل ما عداها، خصوصاً
وقد صار التواصل صعباً، وطغى هدير
الدبابات وأصداء هتافات المتظاهرين والنعي
الرسمي مصحوباً بالتشييع المهيب للضباط
والجنود ورجال الأمن الذي يحتل مساحة
ثابتة على شاشة الفضائية السورية، في حين
تتناوب الفضائيات العربية النفطية على بث
صيحات المتظاهرين وأعداد قتلاهم وصورهم
المشوشة ولافتاتهم التي تتراوح كلماتها
بين الدعاء وتمجيد الوطن والدعوة إلى
إسقاط النظام.
في الإعلام الرسمي تتردد أوصاف «عناصر
الفتنة» و«أهل الإجرام» و«العصابات
المسلحة» أو «المضللين» و«المغرّر بهم» في
أحسن الحالات... ولكن من هم هؤلاء بالضبط؟!
من يغذيهم ويحرّضهم ويمد انتشارهم بامتداد
سوريا؟
«المؤامرة باتت مكشوفة» لكن أحداً لا يعرف
هوية «المتآمرين» الذين تتزايد أعدادهم كل
يوم جمعة، وتتوسع مناطق انتشارهم وإقدامهم
على تخريب المؤسسات الرسمية حتى لتكاد
تشمل أنحاء سوريا كافة، من درعا إلى
بانياس مروراً بحمص وحماه وإدلب وضواحي
دمشق وبلدات ريفها وصولاً إلى القامشلي
ودير الزور على حدود العراق وانتهاءً بتل
كلخ والعريضة على الحدود مع لبنان.
من هم هؤلاء «المتآمرون»؟ ما هي هوياتهم
السياسية، وكيف تسنى لهم أن «يكمنوا» طوال
دهر من الحكم الذي كثيراً ما وُصف
بـ«الحديدي» والذي تتواجد أجهزته الأمنية
المتعددة القيادة، حزبياً وعسكرياً
وسياسياً في كل مكان بما يمكنهم من معرفة
كل شيء عن كل الناس في كل الأماكن.
السؤال الأخطر والأهم: أين هو الرئيس
السوري بشار الأسد، الذي كان يحظى بشعبية
ملحوظة، في الداخل، وبتقدير عال في
المنطقة عموماً، خصوصاً بعد نجاحه في فك
الحصار الدولي عن بلاده وفي كسب تحالفات
جديدة عززت موقعه ودور سوريا ومكانتها؟!
ولماذا لم يواجه الرئيس الأسد «جماهير
المعارضة» بالجماهير المؤيدة له ولنظامه،
والتي خرجت في بداية الأزمة في مختلف
مناطق البلاد تهتف له وترى فيه «بطل
الإصلاح المنشود»؟! لماذا لم يتخذ مجموعة
من الخطوات التي تعبّر عن جديته في إطلاق
الحريات العامة، وفي إعادة صياغة النظام
بما يلبي مطامح الشعب الذي انتخب الرئيس
الشاب بالتزكية مرتين، وبغير منّة...
ولقد استطاع هذا «الرئيس الشاب» أن يحظى
في سنواته الأولى بسمعة طيبة نتيجة إقباله
على الحوار مع «أطياف المجتمع»، من
المعارضين ومنتقدي النظام، والمطالبين
بالإصلاح السياسي والاقتصادي وتحرير العمل
السياسي من قيود الحزب الواحد الذي انتهى
لأن يكون غطاءً شرعياً (ولو وهمياً)
للأجهزة الأمنية والتفرّد بالقرار.
ثم زاد من رصيد «الرئيس الشاب» ثباته على
موقفه المعترض بقوة على الاحتلال الأميركي
للعراق، واستضافة سوريا ملايين الأشقاء
العراقيين الهاربين من جحيم الفوضى
الأمنية التي تسبّب فيها الاحتلال كوريث
لحكم الطغيان الصدامي.
ولعل نجاح «الرئيس الشاب» في استيعاب
الزلزال الذي ضرب لبنان نتيجة اغتيال
الرئيس رفيق الحريري، والذي أدى إلى خروج
القوات العسكرية السورية من لبنان بطريقة
أقل ما يقال فيها إنها كانت «مهينة»
لتاريخ هذا الجيش الذي يحمل وسام حرب
تشرين، كان الانتصار السياسي الأبرز،
خصوصاً وقد عاد بعده إلى «الساحة
اللبنانية» بوصفه طرفاً مؤثراً وشريكاً في
القرار داخل لبنان وفي دوائر التأثير
الدولية على هذه الساحة المفتوحة أبداً.
بل إن «الرئيس الشاب» استطاع أن يتجاوز
الحصار الغربي المفروض عليه ليقيم علاقة
كثيراً ما وصفها بـ«الاستراتيجية» مع
الجار التركي الكبير وحكومته «الإسلامية»،
محققاً بذلك توازناً مؤثراً في دوره الذي
تبدّى في لحظة وكأنه «محوري» في هذه
المنطقة ذات الأهمية الاستثنائية دولياً،
خصوصاً أنه ربح تركيا من دون أن يخسر
إيران التي تفرّدت سوريا بعلاقة حميمة
معها منذ تفجرها بالثورة الإسلامية في
العام 1979.
لماذا إذاً إطلاق رصاص القتل، في درعا،
حيث كان يمكن علاج الأمر بقليل من الحكمة،
قبل أن يمتد هذا الرصاص ليطارد أي محتج
على فعل القتل، لا فرق بين أن يكون «من
أبناء النظام» أو من المعترضين على
ممارسات بعض أهله النافذين، أو المتوجهين
إلى «الرئيس الشاب» نفسه بطلب الإصلاح
الذي طالما تحدث عنه وحاور حوله من دون أن
تظهر له أية نتائج عملية، خصوصاً أن «المعارضة»
لم يعرف لها أحد رأساً أو تنظيماً محدداً،
وإن ظلت أجهزة النظام تلمّح إلى أنها «أصولية»
أو «متطرفة» و«واردة من الخارج»، عبر
سيناريو رديء لا يمكن لأي عقل أن يتوقف
أمامه لحظة.
ها هي سوريا الآن غارقة في الفوضى الدموية،
فالرصاص يقتل الحوار ولا يفتح الباب أمام
الإصلاح، ومواكب الجنازات لا توصل إلى
أبوابه الموصدة بالدبابات.
لقد تناثرت الوعود بالإصلاح في الفضاء
الذي تغطيه رائحة البارود.
كل ذلك و«الرئيس الشاب» لا يواجه الشعب
الجريح. يلتقي من ترشح له «الأجهزة» من
وجوه العشائر والأعيان وبعض التجار
ووجاهات المدن والنواحي البعيدة، فيستمع
إليهم ويسمعون منه وعوداً بقرب انفراج
الأزمة... ثم يدوي الرصاص بعد صلاة الجمعة
فتخر الوعود صريعة، ويشحب الأمل في تغيير
السلوك، وينفتح الباب على مصراعيه أمام
التدخل الأجنبي، بشعارات إنسانية في
البداية سرعان ما تتحوّل إلى إدانات
سياسية واقتصادية، وعبر «تظاهرة» تحاول
الإيحاء بأن «الأجنبي» قد بات أرأف بالشعب
السوري وأحرص على الإصلاح وحقوق الإنسان
من دولته.
وبالتأكيد فإن الغرب عموماً، يستوي في ذلك
الإدارة الأميركية أو الدول الأوروبية
التي تسابقها على محاولة «تبني» الثورات
العربية واحتوائها بالتهليل لنجاحها، أو
بقذائف طائرات الحلف الأطلسي لمراكز قيادة
القذافي وكتائبه المسلحة التي يقودها
أبناؤه، قد حاول توظيف التحرك الشعبي في
سوريا للتشهير بالنظام وفرض العقوبات على
العديد من رموزه.
وبالتأكيد فإن العديد من أهل النظام
العربي قد هلّلوا لارتفاع أصوات الاعتراض
ضد النظام في سوريا وتورّطه في مواجهة
التظاهرات بالرصاص، فأوفدوا إليه من «ينصحه»
بتعديل الصح في سياساته، في حين انطلقت
أجهزة إعلام دول النفط العربي تشهّر
بنظامه ـ بالصوت والصورة بالخبر والتعليق
ـ على مدار الساعة، وكأنها القيمة على
التراث الديموقراطي الإنساني... وبالمقابل
فإن صمتاً عميقاً قد رفرف على البلاط
الملكي السعودي الذي كان إلى ما قبل شهرين
يتبدى في صورة الشريك للرئيس الشاب في
لبنان وربما أبعد منه.
وكان بين الطرائف أن يأتي وزير خارجية
البحرين إلى دمشق حاملاً «خبرات» نظامه في
التعامل مع المعارضة التي تكاد تكون أرقى
حركة سياسية في الأرض العربية.
أما المثير للدهشة، وربما للريبة، فهو
اندفاع «الأصدقاء الأتراك» إلى توجيه «النصح»
و«التنبيه» علناً، وعبر خطب متلفزة، كما
عبر مؤتمرات وتظاهرات لقوى معارضة للنظام
السوري في اسطنبول، فضلاً عن أحاديث صريحة
لأردوغان وأوغلو ذكّروا خلالها بمأساة
حماه منبّهين من خطر انفجار المسألة
الطائفية في سوريا...
[ [ [
بديهي أن تتزاحم الأسئلة الدالة على عمق
الأزمة وأخطرها: أين هو «الرئيس الشاب»؟!
ولماذا لا يخرج ليواجه الناس بخطته
الفعلية للإصلاح؟! لماذا يترك الساحة
لمواجهات دموية بين قوات الأمن و«عناصر
الشغب»، أو لمشاورات بالمفرق مع من لا
يملكون القدرة على مواجهة الناس بما
يقنعهم بأن ثمة حلاً جدياً في الأفق؟
ولماذا لا يأخذ الرصاص في الميادين إجازة
طويلة بحيث يمكن أن يتوفر الحد الأدنى من
المناخ الضروري لبدء مثل ذلك الحوار
المرتجى كمدخل إلى حسم المشكلة المتفجرة
والتي تتدحرج نحو الفتنة، بمقررات إصلاحية
يمكن أن يستظهرها أي طفل عن ظهر قلب؟!
إن المطالب الأصلية معروفة. لكن القمع
المتواصل يجعلها تتصاعد وتتعاظم متجاوزة
سقف النظام، خصوصاً أن دوي الرصاص يتردد
في مختلف الجهات، تواكبه عمليات انتقامية
لقوى مجهولة دمرت الكثير من مؤسسات الدولة
وإداراتها، فضلاً عن أن الأزمة المفتوحة
قد أغلقت حدود سوريا، فشلّت قطاعاتها
الاقتصادية والإنتاجية، واضطرت الدولة إلى
الاستعانة ببعض المتهمين في ذمتهم المالية
ومستغلي النفوذ، فضلاً عن المصارف للحفاظ
على نقدها.
[ [ [
الكلمة، بعد، للرئيس بشار الأسد، على أن
يبادر بنفسه أو يخرج على الناس بوعوده
الإصلاحية وقد تحولت إلى برنامج عمل تشترك
في وضعه كل القوى الحية في المجتمع السوري،
متخطية حزب البعث الذي لم يظهر له أثر في
كل ما شهدته سوريا من أحداث خطيرة هددت
مجتمعها في تماسكه، وشطبت بعض مواقع
التأثير التي تتلطى خلف شعارات الحزب
بقياداته التي تجاوزتها الأحداث منذ زمن
بعيد؟!
أين هو لا يظهر مخاطباً الشعب السوري،
محدداً خطته لمعالجة الأزمات، مستدعياً
جميع المخلصين من أبناء هذا الشعب ذي
التاريخ النضالي المشرف، إلى المشاركة في
جهود إخراج البلاد من محنتها، والتقدم بها
على طريق المستقبل الأفضل؟!
أين هو لا يتحرّر من قيود الشكليات، ومن
المحطات الوسيطة، ليعلن ـ بنفسه ـ أنه قد
أمر بوقف العمليات العسكرية، داعياً
الجميع إلى المشاركة في الحوار من أجل
إنقاذ الوطن ودولته من أخطار مصيرية
تتهدده عبر ارتفاع أصوات مشروخة بشعارات
طائفية، ممّا يحوّل الأزمة إلى فتنة عمياء
تصدع وحدة الوطن وشعبه الذي كان مضرب
المثل في صلابة وحدته الوطنية؟!
[ [ [
إنها أزمة سياسية خطيرة. إنها أزمة النظام
الذي اهتم بالخارج كثيراً وأغفل الداخل
مكتفياً بترك «الأمن» يقرّر للناس حياتهم
بكامل أساسياتها وتفاصيلها.
إنها أزمة مصيرية لا تحلها القوة العسكرية،
بل إن استخدام هذه القوة يعقّد الأمور
ويضع مصير النظام كله على المحك.
ولعلنا في لبنان أكثر خوفاً على سوريا من
السوريين أنفسهم، فالاضطراب فيها يزعزع
الاستقرار هنا، أما الفتنة فيها، والعياذ
بالله، فلسوف تمتد نيرانها لتحرق الأخضر
واليابس في بلد الطوائف والمذاهب التي
تعيش قياداتها على خوف شعبها الدائم من
خطر التفجر، بذرائع داخلية لا تنفع في
تمويه الأغراض الأجنبية... بل قد تمتد هذه
الفتنة إلى بلاد المشرق العربي جميعاً.
... وها هو الرئيس الأميركي باراك أوباما
ينصّب نفسه قائداً للثورة في مختلف أرجاء
الأرض العربية، ما عدا الدول التي تتفجر
أرضها بالذهب الأسود، تاركاًَ لشريكه
الإسرائيلي أن يقرّر مصير فلسطين شعباً
وأرضاً وحلم دولة.
والكلمة، بعد، للرئيس الشاب بشار الأسد،
شرط ألا يتأخر أكثر في إعلانها، وألا تكون
«توجيهية» في نصها، بل أن تكون حاسمة في
التزامه الإصلاح الذي لا تحتاج صياغة
منهجه وبنوده وتوقيت التنفيذ إلى القادة
الأبديين للحزب الذي مات ولم يجد من يدفنه،
بل إلى قرار ممّن لا يجوز ولا يصح أن يكون
القرار لغيره وإلا فهي الكارثة. |