يعد
القطاع الزراعي أحد أهم فروع الاقتصاد
الوطني الرئيسية، وهذا قائم منذ الأزل ولا
يزال، وذلك لأهمية دوره في تحديد الميزان
التجاري، وتوفير المواد الأولية للصناعات
التحويلية والغذائية الضرورية والهامة،
ولاستيعابه أعداداً كبيرة من قوة العمل.
كما أنه أكثر القطاعات أصالة تنوعاً،
نظراً لتنوع الزراعات والأراضي الخصبة
التي تمتاز بها سورية على طول البلاد
وعرضها. وتفيد معظم الإحصائيات أن الريف
السوري يستوعب قرابة /47%/ من سكان سورية،
أي ما يقارب من ثمانية ملايين و915 ألف
نسمة، ويعمل في المجال الزراعي حسب
التقرير الذي أصدرته مديرية التخطيط
الزراعي بوزارة الزراعة والإصلاح الزراعي
في عام 2009، زهاء 18 % من سكان سورية، أي
ما يعادل ثلاثة ملايين و493 ألف نسمة، في
حين أن نسبة العاملين حسب أرقام (مؤتمر
الإبداع والاعتماد على الذات) الذي عقد
بعام 1987 تبلغ /43%/ وأن مجموع المشتغلين
في الزراعة حصراً بفرعيها النباتي
والحيواني نحو/35%/ من مجموع المشتغلين في
سورية، وتراجع هذه الأرقام يوضح بشكل جلي
ما يعانيه البلد في مسألة التراجع الزراعي
بكافة أنواعه.
وتؤكد معظم الدراسات أن التنوع البيئي
الزراعي في سورية، له الدور الأبرز في
إنتاج عدد كبير من المنتجات الزراعية
النباتية والحيوانية، التي لعبت دوراً
مهماً في توفير احتياجات السكان من السلع
الغذائية الأساسية وتصدير الفائض منها إلى
الدول الصديقة مقابل المساعدات في نواح
أخرى.
وخطا الإنتاج الزراعي في الستينيات
والسبعينيات من القرن الماضي خطوات كبيرة
نحو الأمام، ولكن وباتفاق جميع المتابعين
كانت وتائر نموه بطيئة جداً، حتى بدا
واضحاً التراجع في النصف الأول من
الثمانينيات. وفي السنوات الخمس الممتدة
بين 1981 ـ 1985 على سبيل المثال لم يطرأ
أي تطور يذكر على توزيع الأراضي المزروعة
فعلاً، فيما بين القطاعات الثلاثة العام
والتعاوني والخاص.
الأمن الغذائي من الدعامات الأساسية
لا يمكن الحديث عن القطاع الزراعي، من دون
لفت الأنظار إلى قضية مبدئية وسيادية، حيث
كانت سورية حتى الأمس القريب تتباهى في
المحافل الدولية بقوتها وقرارها المستقل
وقوة الأمن الغذائي فيها، ولكن بدأت تبرز
بوضوح في السنوات الأخيرة مخاوف جدية حول
قضية الأمن الغذائي الوطني الذي أمسى في
خطر، وأصبحت سورية من الدول التي تعاني من
مشكلات حقيقية في هذا المجال، سببها نقص
الإنتاج الزراعي والصناعي الغذائي،
وبالتالي اللجوء المتزايد إلى السوق
الخارجية لتعويض هذا النقص، الأمر الذي
جعل دخول سورية إلى السوق العالمية يتم من
موقف الضعيف بدلاً من موقف القوة. وقد جرى
ذلك جراء السياسات الاقتصادية التي
اعتمدها الفريق الاقتصادي في السنوات
القليلة الماضية.
لقد كان للقرار الخاص بضرورة الاعتماد على
الذات، الذي أطلق في عام 1987 ضروراته
الموضوعية، فالدول الرأسمالية وعلى رأسها
الولايات المتحدة الأمريكية كانت وما
زالت، تجهد لإغراق البلدان النامية
عموماً، ومن ضمنها سورية في دوامة الجوع
والحاجة إلى أهم متطلبات الصمود والأمن
الغذائي، بحيث لا تجد هذه البلدان مخرجاً
لها سوى البقاء تحت رحمتها ووصايتها
وتنفيذ مقررات صندوق النقد والبنك
الدوليين. والتجربة المصرية في هذا المجال
أكبر دليل، ولعل أهم ما تم كشفه في هذا
المضمار التقرير الذي قدمته وكالة
المخابرات المركزية الأمريكية للكونغرس
الأمريكي في الثمانينيات، والذي جاء فيه
أن «نقص الحبوب الحاصل في العالم من شأنه
أن يمنح الولايات المتحدة سلطة لم تكن
تملكها من قبل، سلطة تمكنها من ممارسة
سيطرة اقتصادية وسياسية تفوق تلك التي
كانت تمارسها في السنوات التي تلت الحرب
العالمية الثانية».. ألا يكفي هذا التقرير
وحده في صد كل من يحاول ضرب القطاعات
الإنتاجية الزراعية والصناعية؟.
مخاوف مشروعة
إن المخاوف التي يتم الحديث عنها الآن،
وخاصة فيما يخص أسباب بروز مشكلة الأمن
الغذائي في سورية، قد تم التحذير منها في
تقرير قدم لمؤتمر الإبداع والاعتماد على
الذات قبل نحو ثلاثة وعشرين عاماً، ومع
ذلك لم تحرك الحكومات المتعاقبة ساكناً،
لا بل زادت سياساتها المفتعلة في التراجع
أكثر، حيث أكد التقرير أن «أسباب بروز
مشكلة الأمن الغذائي ترجع إلى تناقص مساحة
الأراضي القابلة للزراعة عموماً (التي
كانت تشكل نسبة /47.7%/ من مجموعة مساحة
القطر في عام 1963، وتراجعت إلى /33%/ في
عام 1985)، وقصور النمو في المحاصيل
الزراعية النباتية والحيوانية عن مواكبة
نمو عدد السكان. فمن الحبوب عامة كانت حصة
الفرد من إنتاج القطر بحدود /400كغ/ في
عام 1963، وانخفضت إلى /240كغ/ عام 1985،
وانخفضت حصة الفرد من القمح تحديداً من
/250/ إلى /167/ كغ، الأمر الذي دفع أكثر
فأكثر نحو تلبية الاستهلاك الداخلي عن
طريق الاستيراد. ففي عام 1981 استوردت
سورية من المواد الغذائية ما قيمته /2770/
مليون ل.س، وصدر بقيمة /231/ مليوناً فقط،
أي أن تغطية المستوردات الغذائية
بالصادرات الغذائية كانت بحدود /8.3%/،
أما في عام 1985 فكان الاستيراد بحدود
/2206/ مليون ل.س، والتصدير بـ/171/
مليوناً، والتغطية /7.7%/ فقط، وكل هذا
ناهيك عن التهريب».
إن هذه الصورة القاتمة لقضية الزراعة
والأمن الغذائي كانت بحاجة إلى حلول جدية
وطويلة المدى، لا إلى حلول إسعافية
وموسمية زادت من حجم التخوفات، خاصة وأن
أهم العوامل المساعدة على تفاقمها مستمرة،
وهي زيادة الهجرة من الريف إلى المدن
لعوامل عديدة أهمها على الإطلاق غياب
الاهتمام بتنمية الريف السوري، الأمر الذي
ساهم في زيادة عدد العاطلين عن العمل بشكل
كبير في صفوف العاملين في المجال الزراعي
نتيجة عزوفهم عن الزراعة بسبب التكاليف
الباهظة للمواد الزراعية بعد رفع الدعم عن
المحروقات.
أرقام لا تبشر بالأمل
حسب التوقعات والأرقام التي تحدثت عنها
المؤسسة العامة لتجارة، وتصنيع الحبوب فإن
الحصيلة المتوقعة لموسم القمح لهذا العام
لن تتجاوز 2،4 مليون طن، رغم التأكيدات
والتصريحات التي كانت تعطي ضعف هذا الرقم،
وهذا يعني بالضرورة الحاجة إلى استيراد
كميات لا بأس بها لتلبية احتياجات السوق
المحلية من القمح، ومن المعروف أن
الاحتياجات المقدرة هي نحو 3،6 مليون طن،
منها 3.2 مليون طن لاحتياجات الغذاء
حصراً، ونحو 400 ألف طن تخزن للبذار،
ويبدو واضحاً أن حاجتنا للاستيراد ستتكرر
للعام الثالث على التوالي، رغم التصريحات
المتكررة لوزير الزراعة التي كانت تؤكد
وجود مواسم وفيرة، وأن إنتاجنا من الأقماح
المروية يكفي لسد احتياجاتنا.
ومقارنة مع العام الماضي وحسب الزميلة
(البعث)، فقد وصلت الكميات المستوردة من
الأقماح إلى ما يقارب من 1.2 مليون طن،
والغريب في الأمر أن كمية تقدر بنحو 25
ألف طن لا تزال في الطريق تنتظر الوصول
إلى سورية، مما حدا بأحد الإعلاميين
للقول: «لو كانت الحمولة على ظهر حمار
لكانت وصلت إلينا»، والسؤال المهم هنا هو:
إلى أي مستوى من اللامبالاة وصل الأمر
ببعض مسؤولنيا في التعامل في مع مادة
إستراتيجية ترتبط بأمننا الغذائي،
وبقرارنا السياسي؟.
وكانت آخر النشرات الإحصائية الصادرة عن
المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب قد
أكدت وصول الكميات الإجمالية المسوقة
لمصلحة المؤسسة لغاية 14/6/2010 إلى
2.034.068 طناً من القمح، وهي الكميات
التي سوقت بـ904405 أطنان في الفترة نفسها
من العام الماضي. إن الأرقام الواردة إلى
مراكز الحبوب تعكس التراجع الكبير في
إنتاج القمح على مستوى سورية لهذا العام،
حيث أكدت الأرقام المسوقة إلى مراكز
المحافظات تراجعاً واضحاً في إنتاجها، حيث
لم تتجاوز الكميات المشتراة من المؤسسة
لغاية التاريخ نفسه في محافظة الحسكة
861310 أطنان، ففي قرية الزهيرية المحاذية
للحدود التركية كان المتوقع في البدايات
/50/ كيساً للهكتار، وبعد الإصابة بمرض
الصدأ التي كانت تبريرات الوزارة بالتصدي
لها كمن يعتذر بعذر أقبح من الذنب، توقع
معظم الفلاحين ألا تتم عملية الحصد
نهائياً للكثير من الأراضي، لكن النتيجة
أن الحصاد تم، ولكن بإنتاج منخفض كثيراً،
أي بحدود /20/ كيساً للهكتار، أما بين
الزهيرية وقرية عين ديوار فقد كان الإنتاج
منخفضاً جداً، وخاصة من نوع البذار شام
/8/ من حيث الإنتاجية والنوعية (أي وزن
مئة حبة حسب المقاييس المطلوبة أو وزن
الحبة الواحدة). وفي المناطق الممتدة على
خط حقول الرميلان والسويدية وقلعة الحصن
وكراشوك وطبقة، فقد كان الإنتاج أفضل
نسبياً مقارنة مع المناطق الأخرى حيث كانت
الأضرار أقل.
التوريد القليل
أما من حيث التوريد والتعامل في مراكز
الحبوب، فالتعامل لم يكن واحداً مع رؤوساء
الجمعيات المختلفة وقبول الإنتاج كان حسب
علاقاتهم مع رؤوس الفساد في هذه المراكز،
وحسب رؤية البعض، كان يتم الاستلام (دوكما
إما بالطن أو بالكيس).. ففي إحدى القرى
مثلاً، سلمت الكميات باسم واحد بالدوكما،
بينما جمعيات أخرى تمنت معاملتها بالمثل
ولم تصل للهدف بسبب الممارسات الإفسادية
التي لم تخل منها المراكز بدءاً من الخبير
وإنتهاءً برؤوساء المراكز، ففي مركز
الحبوب في المالكية مثلاً كان هناك ارتياح
كبير من الفلاحين من مسؤولي المركز بسبب
الفساد الواضح في طريقة استلام الإنتاج
وبالسرعة غير المعهودة، وكل هذا لم يكن
لسواد عيون الفلاح وإنما بسبب قلة الإنتاج
وعملية التوريد، ولم يوجد عمليات رفض من
أي مركز، حتى لو عبئت الأكياس رملاً، لكن
السعر مختلف ما بين /8 ل.س حتى 20 ل.س/
بالإضافة إلى الإشاعات القوية في المحافظة
حول الكميات الكبيرة من الحبوب المهربة من
تركيا إلى مراكز الحبوب في سورية، ليست
بالنوعية المطلوبة لكن بالأسعار الرائجة.
وما يتعلق بتجار الجملة فكانوا كالعادة
مدللين ويسرحون ويمرحون في مراكز الاستلام
دون أية مراقبة تذكر، وقد سوقت كما في
السنوات الماضية كميات كبيرة إلى
المستودعات في حلب والرقة تجار الجملة
كعادتهم..
ولم تتجاوز الكميات في محافظة دير الزور
عن 142371 طناً، وفي الرقة لـ 334955
طناً، وفي درعا لم تتجاوز /60/ ألف طن
ويقدر الضرر بين 30%_ 40% وذات نوعية
خفيفة من حيث الوزن والحجم، وقد تضررت
جميع الأراضي المحاذية لخط الغاز ما عدا
الكميات التي احترقت، وفي حلب لـ 300910
أطنان وفي عفرين القمح حسب الخطة المتوقع
للإنتاج /33/ ألف طن الواقع /15/ ألف طن.
وقد وصلت كميات الضرر ما بين /60 ـ 70%/
من الأقماح الطرية بسبب مرض الصدأ ونحو
/10 ـ 20%/ نتيجة الصقيع، حيث كانت
النوعية رديئة جداً إذ قبلت الكميات في
المراكز على أساس الدرجة الثالثة
والرابعة، وفي حماة لـ 179950 طناً في وقت
كانت هذه الأرقام تصل إلى أكثر من ضعف ما
ورد في المواسم الجيدة بل حتى في موسم
العام الماضي الذي سجل تسليم حوالي ثلث
كمية 2.8 مليون التي اشترتها المؤسسة
العامة لتجارة وتصنيع الحبوب في محافظة
الحسكة وحدها.
استنتاجات وحلول
أخيراً لا بد من القول إن السياسة
الزراعية المتبعة حالياً بحاجة إلى مراجعة
جذرية قبل أن تقع الفأس بالرأس من النواحي
كافة، تمويلاً وتوريداً وتسعيراً وتسويقاً
ومكننة ونوعية البذار وخدمات مختلفة، ومنح
القروض الزراعية لتمويل الفلاحين وتمكينهم
من زراعة المحاصيل المخططة، وقيام صندوق
دعم الإنتاج الزراعي بدعم الفلاحين من
خلال تقديم الدعم السعري للمحاصيل
الإستراتيجية مثل القمح والشعير والقطن،
وذلك بمنح الفلاحين السعر وفق تكلفة
الإنتاج مع حساب أسعار المازوت والأسمدة
المحررة. كل هذه الأمور التي تعتبر في
منتهى الأهمية، بعيداً عن المصطلحات
الرنانة وسياسات التحرير الاقتصادي. |