ثمة، لدى مجموعات واسعة من المعارضين
السوريين في الخارج، شراهة لعقد المؤتمرات
واللقاءات والاجتماعات التشاورية، لا تبدو
مفرطة فحسب؛ بل هي أفرزت وتفرز ظواهر
مَرَضية، حالها في ذلك حال أية تخمة
منافية لطبائع الأمور. من بروكسيل ـ 1،
إلى أنطاليا، إلى بروكسيل ـ 2، إلى
اسطنبول ـ 1، إلى اسطنبول ـ 2، إلى برلين،
إلى اسطنبول ـ 3... جرى إعلان لجان وهيئات
ومجالس قيادية، بأسماء فضفاضة رنّانة، مثل
'المؤتمر السوري التغيير'، أو 'هيئة
المعارضة السورية'، أو 'لجنة الحوار
الوطني'، أو 'الائتلاف الوطني لدعم الثورة
السورية'، أو 'مجلس الإنقاذ الوطني'، أو 'هيئة
التنسيق الوطني لقوى التغيير الديمقراطي
في المهجر'، أو 'المجلس الوطني للتغيير'...
وهذا الأخير هو الوليد الأحدث عهداً،
والذي قد يرى النور خلال أيام.
النوايا، في نفوس غالبية المشاركين، طيبة
ومخلصة ونزيهة، عينها على الوطن، وقلبها
على الشعب، وفي رأس أهدافها مساندة
الإنتفاضة بشتى الوسائل، ثمّ الحرص على
الوحدة الوطنية، وقبلها حرص مماثل على
توحيد صفوف المعارضة، وسوى هذا وذاك من
أهداف تحظى بإجماع عريض، كما يتضح من
المداولات والأدبيات في أقلّ تقدير. هنالك،
أيضاً، ذلك الحرص الشديد على إظهار هذه
المؤتمرات واللقاءات وكأنها تمثّل 'جميع
أطياف المجتمع السوري'، حسب العبارة
التقليدية؛ فلا يتردد مؤتمر في تفصيل
انتماءات المشاركين الإثنية والدينية
والطائفية والعشائرية، أو يتفاخر مؤتمر
آخر بإعلان هويات سياسية أو فكرية،
علمانية وإسلامية وليبرالية ويسارية!
ذلك كله يبدو للوهلة الأولى جميلاً،
ضرورياً، مفيداً، وصيغة أخرى في العمل
الوطني ينبغي أن تكمل الإنتفاضة في الداخل،
أو تتولى تمثيلها في الخارج؛ لولا أنّ
المشكلة تكمن هنا تحديداً: هل تكفي
النوايا الطيبة، أياً كانت مقادير الطهر
في مقاصدها، لكي يزعم هذا المؤتمر أو ذاك
أية صيغة تمثيلية حقّة، وفعلية قائمة على
أسس ديمقراطية في الحدود الدنيا، تسمح
للمشاركين بالذهاب بعيداً، وأبعد ممّا
ينبغي، إلى درجة تشكيل 'مجلس إنقاذ' أو 'مجلس
وطني'؟ الإجابة التي يفرضها السلوك
الديمقراطي الأبسط، هي: كلا، بالطبع،
فالنوايا الطيبة لا تنيب بصفتها المجرّدة
هذه؛ وليس لحاملها، أياً كانت خصاله
ومصداقيته، أن يأنس في نفسه حقّ تمثيل
الناس لمجرّد أنه مخلص نزيه حريص على
الإنتفاضة والشعب والوطن.
ثمّ إذا كان المواطن المتظاهر في ساحات
وشوارع سورية يخرج من داره وهو مشروع شهيد،
في الواقع الفعلي وليس في المجاز، يحمل
دمه على كفّه، أو تُختزل روحه في حنجرته،
من أجل نظام في التمثيل الديمقراطي لا
يصادر صوته ولا يزوّر إرادته؛ أفلا يتوجب
على المعارضين السوريين في الخارج أن
يقدّموا القدوة الحسنة في هذا المضمار،
سيّما وأنّ شروط التمثيل الإنتخابي السليم
متاحة تماماً أمامهم، إذْ يعيش معظمهم في
ظلّ ديمقراطيات غربية تكفل حرّية الاجتماع؟
هل يجوز تنظيم مؤتمر طويل عريض، يتنطّح
لقضايا كبرى شائكة، لكنه لا يستند إلى
قواعد تمثيلية واضحة، بل يعتمد مبدأ 'أهلا
وسهلا بلّي جاي'، أو خيار 'مؤتمر بمَنْ
حضر'، أو المشاركة وفق تلك البدعة العجيبة
التي اسمها 'عضو مراقب'، أو 'عضو ضيف'؟
ولا ينسى المرء بؤس تلك الرياضة القائمة
على تلميع المؤتمرات عن طريق إبراز 'أعضاء
نجوم'، من قادة أحزاب مهجرية، أو
أكاديميين طنّاني الألقاب، أو نزلاء
مزمنين على الفضائيات.
مَنْ فوّض مَنْ؟ متى، وأين، وكيف؟ ليست
هذه علامات استفهام وسؤال وتساؤل، بل هي
نقاط نظام وانضباط ومساءلة. ومع استثناءات
قليلة، لم يحدث أنّ تنسيقيات الداخل، أو
أحزاب المعارضة التي تحترم شعبها ونفسها،
أرسلت مندوبيها إلى أيّ من المؤتمرات، ضمن
أية صيغة مقبولة من التمثيل الديمقراطي
على أسس قاعدية. كان العكس هو الذي يحدث،
بصفة عامة، رغم حرص الجميع على عدم الذهاب
بالتحفظ إلى مستويات العلن (وهذا، في
يقيني، خلل سياسي وأخلاقي لا يليق بشهداء
يتساقطون بالعشرات، كلّ يوم). ولدينا مثال
حديث العهد، صدر بالأمس فقط، هو تحفظ 'الهيئة
العامة للثورة السورية' على تكاثر
المؤتمرات، والحثّ على 'تأجيل أي مشروع
تمثيلي للشعب السوري'.
وأرى واجباً عليّ، لكي لا يبدو موقفي
منفصلاً عن السلوك الشخصي العملي، الإشارة
إلى إنّ هذه الاعتبارات جعلتني أعتذر في
الماضي، وسأعتذر في المستقبل، عن حضور أيّ
مؤتمر ولقاء وملتقى يُعقد في الخارج دون
أسس تمثيلية ديمقراطية صريحة وملموسة. ومن
الإنصاف التفكير بأنه إذا بات صعباً على
السوري ـ المسيّس، المثقف، والمتابع ـ أن
يفرز هذا المؤتمر من ذاك، ويميّز ماهية 'مجلس
الإنقاذ' بالمقارنة مع 'المجلس الوطني'؛
فهل من الغرابة أن تضيع 'الطاسة' على
الشعب السوري، في مختلف شرائحه الاجتماعية
والسياسية الأعرض؟
وفي مقام آخر، هو الأهمّ ربما، هل يُلام
المتظاهر، الخارج من بيته في طريق مستقيم
نحو احتمال الشهادة، إذا اكتفى بعبارة
مجاملة من نوع 'يعطيكم العافية يا جماعة'،
يرسلها لأخوته السوريين المصابين بشراهة
المؤتمرات الخارجية؛ ثمّ أدار ظهره، بأدب
جمّ لا ريب، وانخرط في تظاهرة حاشدة
تستشرف المستقبل وتهتف للوحدة الوطنية
وتنادي بسقوط النظام، حيث الطاسة... ليست
ضائعة أبداً؟ |