تحوَّلت
الرغبة في الحصول على السلع، سواء كانت
ضرورية أم كمالية، إلى هوس، سمَّاه البعض
من الخبراء الاقتصاديين بـ«النزعة
الاستهلاكية»، تلك التي غزت الدول
الأوروبية في القرن الثامن عشر، ولم تدخل
دول العالم الثالث إلا في السنوات العشر
الأخيرة؛ ذلك أنها اعتبرت مؤشراً خطراً،
كونها أسهمت، إلى حدّ كبير، في خلق حالة
من عدم التوازن بين دخل الفرد ومتطلباته
في الوقت ذاته، إذ لم يعد مهماً التفكير
في ادخار المال أو التقنين المبرمج،
وأصبحت النزعة والميل إلى اقتناء أحدث «الموبايلات»
والسيارات الفخمة الشغل الشاغل لدى
الكثيرين من أبناء المجتمع. وهي حالة
وصفها الطب النفسي بأنها معيار لقيمة
الشخص في مجتمع ما. وبالتالي ابتعدت القيم
الثقافية عن أذهان هؤلاء الناس، وحلَّت
مكانها حمّى الاستهلاك إلى درجة البذخ
والسير عكس التيار، ولاسيما لدى أفراد
الطبقة الوسطى أو الفقيرة.
¶ ضياع الهوية
يرجع بعض المفكرين الغربيين وجود مصطلح
النزعة الاستهلاكية إلى قرون بعيدة؛ إذ
إنه ليس وليد قرن أو قرنين من الزمن.. غير
أنَّ وجوده في البلدان المتقدمة كان
واضحاً بشكل أكبر، ومن ثم بدأ زحفه إلى
بلدان العالم الثالث شيئاً فشيئاً، حتى
تحوَّل إلى ظاهرة، وبعدها إلى ثقافة أصيلة
ضاعت من خلالها هوية المجتمع، وبات الكلّ
يسبح عكس التيار. وهنا لا بدَّ لنا من أن
نتساءل: ما حدود سيطرة النزعة الاستهلاكية
عند المجتمع السوري؟، وما خطورتها على
المدى البعيد؟..
¶ إشارات قوية
يرى خبراء الطب النفسي وجود إشارات قوية
على تنامي ظاهرة الاستهلاك في المجتمع
السوري. وبحسب الدكتور محمد دندل
(الاختصاصي في الطب النفسي)، فإنَّ «تأثر
المجتمع بما تنتجه المجتمعات الغربية له
الدور الأكبر في تنامي هذه الظاهرة، علماً
بأنها ظاهرة خطرة جداً». ويضيف دندل:
«ظاهرة الاستهلاك ظاهرة عالمية، وتعزيزها
في المجتمع السوري أدَّى إلى الميل نحو
الاستهلاك، إلى حدّ البذخ غير الضروري؛ ما
أدى إلى حدوث أضرار كبيرة في دخل الفرد،
ولاسيما ذوي الدخل المحدود. ومن الناحية
النفسية، فالإعلام له الدور الأكبر، بسبب
كثرة القنوات الفضائية، وسيطرة الإعلانات
التي تجمّل بعض المنتجات وتبرز محاسنها عن
طريق ما يُسمى باللعبة النفسية».
¶ الابتعاد عن الجوهر
مما لاشك فيه أنَّ اتجاه معظم أفراد
المجتمع إلى التركيز على ما هو غير جوهري
وتعزيز ثقافة الامتلاك، جعل فكرة الميل
نحو الاستهلاك مثل الهذيان، وبات من الصعب
على الفرد، مثلاً، أن يفكر في ادخار ما
يبقى من راتبه الشهري للقيام بمشاريع
مفيدة. وبذلك حلَّ مثلُ «اصرف ما في الجيب
يأتيك ما في الغيب»، بدلاً من «خبي قرشك
الأبيض ليومك الأسود»؛ نظراً إلى التحولات
الكبيرة الحاصلة في المجتمع السوري، من
خلال سيطرة النزعة الاستهلاكية. الدكتور
سعد بساطة (الخبير في الشؤون الاقتصادية)
قدَّم أمثلة على بعض الدول الغربية في هذا
المجال: «سابقاً وجدت في مجتمعنا ثقافة
الادخار والتفكير في المستقبل. وهذا ما
يشبه الثقافة الصينية، التي بدأت تتغيَّر
مع ارتفاع المدخول الشهري للفرد وتشجيع
الحكومة الشعب على الإنفاق لتحريك قطاعات
شلَّها الكساد الاقتصادي».
وأضاف بساطة: «في سورية ربُّ الأسرة الفتي
يقارب الأربعـين، أي وُلد في السبعـينات،
فترة المساعـدات النفطية، التي تلاها
اكتشاف النفط هنا.. وأبناء الأسرة الذين
في العـشرين من عـمرهم قد عـاصروا
الفقاعـة الاقتصادية من نمو التصدير،
ولمسوا بدايات الاستيراد الباذخ،
والكماليات؛ ما أدى إلى نمو عادات تأثرت
بها أولاً الشريحة الأكثر دخلاً في
المجتمع، وساعدت فيها ثورة الاتصالات وبدء
تحولات الانفتاح تجاه السوق الاقتصادي
الاجتماعـي».
¶ أين المشكلة؟..
الكثير من التكهنات حول الواقع، الذي
أصبح، بفعل مرور الزمن، عادة متوارثة بين
أبناء الجيل الواحد.. وابتعادُ المفاهيم
الثقافية لتحلَّ مكانها القيم الاستهلاكية
الباذخة.. ليصبح همّ الشباب، في الدرجة
الأولى الحصول على كلّ ما تقتنيه الطبقات
الأكثر غنى من غيرها. وبالتالي خلق مشكلة
من نوع آخر هي عدم السيطرة على مدخولات
الفرد. وهو ما كان في نظر البعض من
الخبراء مشكلة كبيرة.
الدكتور بساطة وصف المشكلة بقوله:
«المشكلة أنّ الكلّ أضحى يصرف من غير
تبصّر النتائج، مستفيداً من إمكانات برزت
عـلى قروض وتقسيط وتسهيلات، وأسهمت فيها
كثرة الإغراءات لشراء حاجات وتلبية رغبات
المرء. فالسيارة، التي كانت حلماً، أضحت
أمراً متاحاً، والهاتف الذي كان عـبارة
عـن فترة انتظار تقارب العشرين سنة تحوّل
إلى نقّال يتمّ ابتياعـه وشريحته وتفعـيله
بثوانٍ.. وإعـلانات وهدايا وإغـراءات لا
قدرة للكل على الصمود أمامها».
¶ حاجات عاطفية
تلعب وسائل الاتصالات، على اختلاف
أنواعها، دوراً كبيراً في إقبال الكثيرين
على شراء السلع، وإن كانت غير ضرورية،
قياساً بالسلع الأخرى. وأصبح السباق أكثر
شدة ومنافسة، من خلال الإعلانات التي
تقدّمها القنوات الفضائية، كلّ على
طريقته. وبالتالي أصبح الفرد غير قادر على
استيعاب هذا الكم الهائل من الإعلانات دون
تأثر. وقد لا نخطئ القول فيما لو قلنا
إنَّ الأمر وصل عند البعض إلى درجة الهوس،
وبات التركيز على حقائق الأمور في الصورة
الإعلانية أمراً صعب التحقيق عند
الكثيرين. وبالتالي حلّت الصورة المزيفة.
ومن أسف، لعبت البرامج المختصة بمسابقات
الجمال وعروض الأزياء وطرق التجميل دورها
في تسويق كلّ ذلك بطرق تجارية بحتة بعيداً
عن المضمون. وهو ما أشار إليه الدكتور
دندل بقوله: «في مجتمعنا يكون الميل نحو
الاستهلاك عند الشخص بدافع نقص الحاجات
العاطفية؛ ذلك أنَّ السلوك الاستهلاكي هو
سلوك إنساني مركب ومعقد. وفي كثير من
الأحيان، تكون النزعة الاستهلاكية ناتجة
عن نقص الحنان المتأصل منذ الطفولة عند
البعض من الأشخاص وليس الكل. وبالتالي
فالاستهلاك يحمل قيماً عند الكثيرين ذات
علاقة بالانتماء إلى طبقة راقية مثلاً،
وهو شكل من أشكال إثبات الهوية، ولا يمكن
أن يتحقَّق ذلك إلا من خلال التبذير
والإنفاق غير الضروري».
¶ تغيّرات بنيوية
يبدو واضحاً أنَّ الميل نحو التبذير
والاستهلاك لم يعد حكراً على مواسم أو
فصول محددة في السنة كما في السابق، علماً
بأنَّ نسبة الاستهلاك في مناسبات الأعياد
وشهر رمضان وغير ذلك مازالت كبيرة، وأضيفت
إليها مناسبات أخرى؛ كالاحتفال بعيد الحب
أو موسم المونديال، والتعبير عن الاحتفال
بطرق مختلفة تكلف الكثير وتبتعد بمضمونها
عن عاداتنا المتعارف عليها. فأجدادنا
سابقاً كانوا لا يحتفلون بمثل هذه
المناسبات ولم يسمعوا بها من قبل. وبحسب
الدكتور زياد عربش (الخبير الاقتصادي)
فإنَّ المجتمع السوري يشهد تغيرات بنيوية
من الناحية الفكرية والثقافية
والاقتصادية.. غير أنَّ وتيرة هذه
التحولات تسارعت في السنوات الأخيرة، مع
تزامن خطى التحرير الاقتصادي والتجاري،
ولاسيما تحرير خطى ثورة الاتصالات وتقانة
المعلومات وانتشار أجهزة الاستقبال.
ويضيف الدكتور عربش: «منذ التسعينات أسهمت
الإعلانات، إلى حدّ كبير، فيما يُسمّى
حمَّى الاستهلاك؛ ذلك أنَّ الثقافة
الإلكترونية، وكذلك الموبايل، كانت قليلة
الاستخدام، وبالتالي فإنَّ انتشار العولمة
والقنوات الفضائية أسهم في زيادة استهلاك
الفرد بطرق مشوهة».
لكن الدكتور عربش أعطى رأياً مختلفاً فيما
يخصّ الإعلانات، ولاسيما الجانب التجاري،
بقوله: «من الناحية الاقتصادية، لا مانع
من أن توظف الإعلانات في خدمة الدعاية عن
بعض المنتجات في مواسم أو فصول محددة،
بشرط أن تكون مدروسة وحقيقية».
الهدف إثارة الشهية
لا يمكن لنا أن ننكر الدور الذي لعبته
الأسواق التجارية والمولات الكبيرة في
إثارة الشهية لدى الفرد في اقتناء كلّ ما
يراه أمامه؛ ذلك أنَّ احتواء هذه المولات
أو الأسواق على البضاعة الأجنبية أدَّى
إلى تسارع وتيرة الاستهلاك لدى المواطن.
ولم يعد مهماً، بالنسبة إلى البعض،
التفكير في السعر مقابل الحصول على منتج
معين، لاسيما وأنَّ الكثير من هذه الأسواق
تستخدم ما يسمّى الكوبونات أو الهدايا
لترغيب المستهلك في الحصول على سلعة
معينة. واستخدام هذه الوسيلة أوقع الزبون
في فخّ التبذير مقابل ربح أصحاب هذه
الأسواق والمولات.
الدكتور دندل (الاختصاصي في الطب النفسي)
بيَّن أنَّ الاتجاه إلى المولات الكبيرة
هو نوع من مجاراة الموضة بطريقة ترهق
المستهلك مادياً. وبالتالي أصبح المستهلك
معرضاً لضغوط كبيرة. والأكثر تأثراً هو
الطبقة الوسطى؛ لأنها غالباً الطبقة
الأكثر إنتاجاً والأكثر تعلّماً، غير أنها
معرضة للانحسار، بسبب سيطرة معايير
استهلاكية مختلفة عن السابق، إضافة إلى
تحكم طبقة طفيلية تربح ثروات وراءها
الكثير من علامات الاستفهام. وتحدّد هذه
الطبقة الطفيلية معيار قيمة الشخص من خلال
ما يمتلك. وبات هناك نوع من الإجماع على
بعض القيم الاستهلاكية غير الضرورية، بسبب
غياب الثقافة الرادعة.
مرحلة وسطى
على الرغم من انتشار النزعة الاستهلاكية
في سورية، إلا أنها لم تتعدَّ بعد المرحلة
الوسطى. وبحسب الدكتور عربش، فإنَّ
الاستهلاك في المجتمع السوري لن يأخذ مداه
البعيد والخطر إلا في العام 2015 تقريباً،
أي بعد أن نستنزف كافة المدخرات، وعندما
تقلّ فرصة الاقتراض بالنسبة إلى المواطن،
ولاسيما في حال لم يدخر المواطن بشكل جيد
وجوهري.. وبالتالي وجود حالة من عدم
التوازن بين ما يطلبه الفرد والدخل الذي
يحصل عليه.
ويذهب البعض من خبراء الاقتصاد إلى القول
إنَّ الطبقات الاجتماعية هي النقطة
الرئيسة في الاستهلاك؛ ذلك أنَّ البعض من
هذه الطبقات الاجتماعية يتجه اتجاهاً
كاملاً نحو السلع غير المعمرة التي لا
تحمل أيّ قيمة ثقافية. وهذا الاستهلاك، في
الغالب، على حساب الإنفاق على الصحة
والتعليم والثقافة. والأدلة ظاهرة في
مجتمعنا للعيان؛ ذلك أنَّ فئة الشباب تصرف
أموالاً طائلة من أجل الحصول على أحدث
أنواع الموبايل، في حين يظلّ الإقبال على
شراء الكتب ضعيفاً جداً. وما يلفت النظر
بالنسبة إلى الأشخاص أهمّ بكثير من القيمة
أو المضمون الفكري.
¶ بعض التفاصيل
يُعدُّ الإنفاق على الاستهلاك أحد أشكال
الإنفاق على الناتج المحلي الإجمالي، على
الرغم من أنَّ الناتج المحلي الإجمالي
يوزَّع على فئات الشعب كافة. لذا يسمى عند
خبراء الاقتصاد«الكعكة الاقتصادية»؛ حيث
قدَّم الدكتور حيان سليمان (المختص في
شؤون الاقتصاد) تحليلاً للاستهلاك في
المجتمع السوري؛ يقول: «في الآونة الأخيرة
توسّعت دائرة الاستهلاك، بسبب المتطلبات
الحديثة مثل السيارة والهاتف، وبروز
العادات الاستهلاكية الجديدة.. وكلّ ذلك
أدّى إلى تكاليف إضافية ثقيلة على كاهل
الفرد. وهذا ما يفسّر إقبال البعض على
السلع الرخيصة بغض النظر عن جودتها».
وبحسب الدكتور سليمان، فإنَّ الاستهلاكين
الحكومي والشعبي شكّل ما نسبته73 %من
الناتج المحلي الإجمالي؛ ما دلَّ على وجود
زيادة في نسبة الاستهلاك، غير أنَّ
الاستهلاك الشعبي في العامين 2007-2008
زاد على الاستهلاك الحكومي الذي تراجع.
ما نحن مقبلون عليه ربما أسوأ بكثير مما
نحن عليه الآن. فالكلّ لم يعد يفكّر في
القيم الفكرية والثقافية والجمالية،
بعيداً عن القيم الأصلية والعادات
المتوارثة. ومن أسف باتت قيمة الشخص محددة
بنوع السيارة الفخمة، وكذلك نوع الموبايل
الذي يقتنيه. ويبدو أننا انحدرنا إلى عالم
آخر سمته البعد عن كل ما هو فكري وثقافي. |