تدخل سورية الحيز الزمني للخطة الخمسية
الحادية عشرة، والمصطلح الأكثر لفتاً
للانتباه في الخطة الجديدة لابد أن يكون «النمو
عمومي النفع»، وذلك لجهة إشارته الواضحة
إلى «عدم عمومية النفع» في نمو الخطة
السابقة ما لم نقل عدم نفعه للفقراء،
واقتصار انعكاسات نفعه على الشرائح ذات
الدخول المرتفعة- طبقاً لاعتراف الحكومة
المبطن بذلك.. فما النمو عمومي النفع؟ وهل
يمكن تحقيقه.. وكيف؟! «الاقتصادية» تحاول
تسليط الضوء على الأمر.
نمو متواضع
رأى الباحث الاقتصادي د. قدري جميل أنه
لابد من الإشارة إلى تواضع معدل النمو
المستهدف في الخطة الخمسية الحادية عشرة،
لافتاً إلى أن سعي الخطة لتأمين نمو سنوي
وسطي قدره 5.7% هو سعي «أكثر تواضعاً من
طموحات الخطة العاشرة بالوصول إلى نمو
وسطي 7%، وهذا لا يرقى إلى مستوى مواجهة
التحديات المنتصبة أمام الاقتصاد السوري
والتي تتطلب أكثر من ذلك بكثير» حسب قوله،
وتابع: «إن استهداف معدل نمو 5.7% إنما هو
هروب من رقم الخطة العاشرة وعودة إلى ما
قبلها، رغم أن التجربة تدل على أن بلداناً
كثيرة لديها فرصة خلال الأزمة العالمية
لتحقيق معدلات نمو أكثر ارتفاعاً من
السابق، ومثال ذلك تركيا والصين»، وأضاف:
«إن رقم نمو 5.7% سنوياً يعني أن الناتج
الإجمالي سينتقل من 2714 مليار ليرة حسب
المتوقع لعام 2010، إلى 3580 مليار ليرة
سورية عام 2015، وإذا جمعنا كل أرقام
الناتج الإجمالي خلال سنوات الخطة الحادية
عشرة يتبين أن مجموع الناتج الإجمالي
خلالها هو نحو 16072 مليار ليرة.. أي نحو
350 مليار دولار أميركي».
السؤال هو: كيف؟
لكن ومع ذلك، كيف يتم تحقيق هذا الإنجاز «المتواضع»؟
على هذه النقطة أجاب د. جميل موضحاً: «الخطة
تتضمن توظيف 17- 20 مليار دولار أمريكي في
البنية التحتية، ومثلها في القطاعات
الإنتاجية، أي إن مجموع ما سيوظف في
الاقتصاد الحقيقي وملحقاته خلال الخطة
الحادية عشرة في أحسن الأحوال هو 40 مليار
دولار، وهو يشكل 11.5% من الناتج الإجمالي
المتوقع، وإذا قدّرنا أن التوظيفات غير
الحكومية (الداخلية والخارجية) لن تتجاوز
هذا الرقم ولكن معظمها لن يوظف في القطاع
الإنتاجي الحقيقي كما هي العادة، نستطيع
القول في أحسن الأحوال إننا سنؤمّن 20
مليار دولار أخرى، ما سيرفع نسبة التوظيف
في أحسن الظروف إلى 17% من مجمل الناتج
الإجمالي.. وإذا عدنا إلى علم الاقتصاد
فسنجد أن 10% نسبة توظيفات كفيلة بتأمين
نمو صفري، لأنها مجرد تعويض للاهتلاكات
على مستوى الاقتصاد الكلي فتبقى نسبة 7%
حاملة للنمو المتوقع، وهذه النسبة لا
تستطيع في ظل العائدية الحالية للاقتصاد
السوري (20% في أحسن الأحوال حسب قوله) أن
تؤمن أكثر من 1.4% وسطي نمو سنوي، مع كل
ما سيعنيه ذلك من ازدياد في تردي الأوضاع
المعيشية وازدياد البطالة والفقر وتدهور
المؤشرات الاجتماعية الأخرى».
أما الطريقة التي قد تضمن الوصول إلى معدل
النمو المستهدف والمتواضع فحددها د. جميل
بقوله: «إن تحقيق رقم النمو المتواضع نفسه
الذي اعتمدته الخطة (5.7%)، يحتاج فعلياً
في ظروفنا الملموسة كما تبين الوقائع
والدراسات، وفي ظل مستوى العائدية المعروف
في الاقتصاد السوري، إلى 130 مليار دولار
توظيفات حكومية وغير حكومية في القطاعات
الحقيقية فقط»، وتابع: «لا يشكل الرقم
المخطط توظيفه من الفريق الاقتصادي إلا
30% من المطلوب لتحقيق معدل النمو
المتواضع هذا»، داعياً إلى إعادة النظر
بذلك قبل فوات الأوان والاعتماد على «تحفيز
قطاعات الاقتصاد الحقيقي وليس الوهمي..
فلو تم البحث عن الموارد القادرة والراغبة
في التوظيف بالاقتصاد الحقيقي، ولو اعتمدت
الخطة على الموارد الداخلية (الداشرة) بين
النهب والفساد، وليس على الموارد الخارجية
اللاهثة وراء الفروع الأكثر ربحية
المستوطنة في قطاعات الاقتصاد غير الحقيقي،
لكان من الممكن توقع تنفيذ الخطة لبعض
أهدافها على الأقل».
توظيف وعائدية
في سياق حديثه أوضح د. جميل أن معدل النمو
الاقتصادي أياً كان إنما هو بالأصل «حصيلة
جداء رقمين: حجم التوظيفات الحقيقية من
الناتج المحلي الإجمالي في الاستثمار
الحقيقي؛ ورقم العائدية على رأس المال في
الاستثمار الحقيقي أيضاً، ولتحقيق رقمي
التوظيفات والعائدية المطلوبين لتحقيق نمو
اقتصادي كاف يجب اتخاذ مجموعة من السياسات
المغايرة للسياسات المتبعة التي حفزت
الفروع الريعية وغير الحقيقية في الاقتصاد
السوري، فالعائدية المطلوبة لن تنتج عن
الفروع غير الحقيقية وإنما عن فروع
الاقتصاد الحقيقي حيث القيمة المضافة،
وهذا ليس بالمستحيل إذ بإجراءات بسيطة
يمكن الوصول إلى رقم نسبة عائدية 40% (تقدر
حالياً بحدود 17% والحد الأدنى المطلوب
24%)، وعند مزامنة ذلك مع رفع رقم
الاستثمارات فيمكن تحقيق معدلات نمو تقارب
10% وليس فقط 7% كما كانت الخطة العاشرة
تستهدف، ولكن هذا يتطلب أن تضع السياسات
الاقتصادية نصب أعينها رفع رقم العائدية،
وهذا يتطلب خطة كاملة وشاملة على المستوى
الوطني ومسحاً جدياً لإمكانات الاقتصاد
السوري بغية معرفة المزايا ليس التنافسية
النسبية وحسب وإنما المزايا المطلقة
للاقتصاد السوري، أي المزايا الاحتكارية
بالمقارنة مع الاقتصادات الأخرى».
عمومي النفع
وبالعودة إلى النمو عمومي النفع، يرى
اقتصاديون أن تسليط الضوء على هذا المصطلح
والترويج له إنما يأتي اليوم نتيجة لصعوبة
الاعتراف بضرورة استهداف نمو يحابي
الفقراء، فهذا الأمر المرغوب اجتماعياً
يعدّ تحدياً كبيراً للخطة الحادية عشرة،
وخاصةً بعد مرور الخطة العاشرة التي لم
تكن بمجملها عمومية النفع كما لم تكن
محابيةً للفقراء بحيث يكون مبرراً تعميم
النفع على جميع الشرائح الاجتماعية، وعليه
يبدو أن إعلان هذا المصطلح الذي يراه
البعض متوازناً يأتي لتخفيف حجم التحديات
التي تواجهها الخطة الحادية عشرة، وكذلك
تخفيف حجم الوعود التي قد تطلقها الحكومة
للفقراء الذين ما يزالون بشكل أو بآخر
خارج الخطة، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا
هو: هل ستتمكن الخطة الحادية عشرة من
تحقيق نمو عمومي النفع على الأقل؟ في هذا
السياق أعرب د. جميل عن قناعته بأن الهدف
الأول من وصف النمو المستهدف بعمومي النفع
قد يكون «إيقاف الحديث عن النمو المحابي
للفقراء، والإيحاء بأن النمو القادم سيكون
محابياً للجميع ولكن هذا غير ممكن، فلا
أحد يستطيع الجزم بأن معادلة الإبقاء على
الخراف كاملةً وسالمةً وعلى الذئب شبعاً
في الوقت نفسه قابلة للتحقيق، فإما السماح
بنقصان الخراف وزيادة بؤسها لإطعام الذئب
وإسعاده أو حرمان الذئب من الخراف وتجويعه
للإبقاء على الخراف سالمة وسعيدة»، وتابع
موضحاً: «في ظل شكل توزع الثروة القائم في
سورية، فإن النمو عادةً ما يكون محابياً
لأحد الطرفين، والحديث عن نمو يحابي
الجميع إنما هو ضرب من الخيال، فحتى قصص
الأطفال لم تستطع إطعام الذئب دون إنقاص
عدد الخراف، وبالتالي فعلينا الاختيار بين
الطرفين إما أن يكون النمو محابياً
للشرائح ذات الدخل المحدود والمنخفض، أو
أن يكون محابياً للشرائح ذات الدخل
المرتفع».
ويؤكد اقتصاديون أهمية أن تركز الخطة
الحادية عشرة على أهداف محابية للفقراء
بحيث- ربما- تتمكن من تعديل نتائج الخطة
العاشرة، ومن ثم الانتقال في الخطة
اللاحقة إلى ما يسمى «نمواً عمومي النفع»،
أما الآن وبما أن الاقتصاد السوري يعاني
من خلل فالحاجة أعلى لتحقيق نمو يحابي
الفقراء، ولكن هل هذا ممكن؟ يبدو واضحاً
أن فلسفة الحكومة المعلنة عادةً ما تكون
فلسفة محابية للفقراء، ولكن التشريعات
التي صدرت في الفترة الماضية لم تكن
محابيةً للفقراء، أي إن ما يجري على أرض
الواقع ليس محابياً للفقراء بقدر النوايا
المعلنة، وهنا حذر د. جميل من استمرار
سلوك الخطة العاشرة في الخطة الحادية عشرة،
موضحاً أن «عدم استخلاص الدروس من الخطة
السابقة قد يؤدي إلى الوقوع في مطبات
كبيرة، فقد كان هدف الخطة العاشرة الخروج
منها إلى معدل نمو أكبر من 7% والخطر
الأكبر اليوم إنما تمثل بتخفيض سقف النمو
المستهدف إلى 5.7% بدل رفعه، وهذا التخفيض
جاء كما يبدو نتيجةً للعمل وفق عقلية
الموظف الذي لم يستطع تحقيق أهدافه وتأمين
حاجاته فقرر تخفيض سقف طموحاته نظرياً
ليتهرب من مسؤولياته تجاه السائلين».
النمو والفقر
الأساس في الموضوع هو تحسين المستوى
المعيشي للمواطنين، وهذا هو العنوان
العريض لمكافحة الفقر، ولكن النمو
الاقتصادي ليس الأمر الوحيد الذي يؤثر
سلباً أو إيجاباً في ظاهرة الفقر، فعدالة
التوزيع أيضاً تعد أساسية في تفاقم أو
تراجع هذه الظاهرة، وصحيح أن النمو يعد
أساساً ضرورياً للحد من الفقر لكنه أساس
غير كاف، بل لم يعد ممكن التحقيق دون
عدالة في التوزيع، فعدالة توزيع الدخل هي
العامل الجوهري في النهاية حسب قول د.
جميل الذي ميز بين التنمية والنمو مبيناً
«أن التنمية ليست مجرد مؤشر كمي، كما أنها
ليست مؤشراً بسيطاً، أو مؤشراً رقمياً
صرفاً، وإنما هي مؤشر نوعي ومركب يدل على
مستوى المعيشة ونوعيتها، إلا أن تحقيق
التنمية يتطلب تحقيق مؤشرات كمية ورقمية،
وأولها نمو الاقتصاد الوطني». واستناداً
إلى ذلك أوضح أن «التنمية هي ذلك النمو
الذي ينعكس إيجاباً على مستوى ونوعية
معيشة أكثرية الناس في المجتمع، أي يحابي
الأكثرية وهي الشرائح ذات الدخل المحدود
والمنخفض، وبذلك فإن النمو هو شرط ضروري
لتحقيق التنمية، ولكن تحقق النمو لا يعني
بحال من الأحوال تحقيق التنمية (أوتوماتيكياً).
لأن التنمية تعني في نهاية المطاف التوزيع
الأكثر عدالة لعوائد النمو ذاته، سواء في
مجال الأجور أم الخدمات الصحية والتعليمية
والثقافية، الخ».
وأضاف د. جميل: «إن السياسات الحكومية
المعلنة لم تضع نصب أعينها فعلياً، حتى من
خلال الخطة العاشرة، تحقيق التنمية من هذا
المنظور، بل وضعت أمامها هدف تحقيق نمو
محدد، وإلا فما هي، وأين إنجازات الخطة من
تحقيق التوازن بين الأجور والأرباح؟ وأين
هي من تحقيق التوازن بين الأجور والأسعار
في وقت شهدنا فعلياً فلتاناً فظيعاً
للأسعار وتقييداً شديداً للأجور؟ وأين هي
من فروع الاقتصاد الحقيقي ومن التشغيل
وغير ذلك؟»، وخلص إلى «أن السياسات
الحكومية لم تفضِ إلى أي تنمية، لأن مستوى
معيشة الأكثرية الساحقة من الناس قد
تدهور، وحتى إذا قال البعض إن وجود هاتف
خلوي بيد كل صاحب أجر محدود هو دليل على
تحسن وضعه المعيشي، فإن تحسن الوضع
المعيشي سيبقى يقاس من خلال سلة الاستهلاك
وليس من خلال إحد مفرداتها، ناهيك عن أن
التطور يجب أن ينعكس إيجابياً على الأجر
وأسعار السكن والوقود والكهرباء والماء
والتعليم والصحة، وهي الأمور الضرورية
للحياة اليومية التي لا يمكن أن تدخل بحال
من الأحوال في مجال الاستهلاك الترفي غير
الضروري».
النموذج البديل
وأنهى د. جميل حديثه لـ«الاقتصادية»
بالقول: «إن منطق الأمور يقتضي البحث عن
نموذج بديل للتطور الاقتصادي في سورية
يؤمن أعلى نمو ممكن وأعمق عدالة اجتماعية
ودونها لا يمكن تحقيق نمو حقيقي، والنموذج
الحالي يضع هذين الحدين على طرفي نقيض، في
حين تطلب الحياة ربطهما ببعضهما بعيداً عن
النموذج الذي اعتمدته سورية في القرن
الماضي».
عن «الاقتصادية» العدد (473 ) بتصرف |