لم يمنعهم أملهم بالحياة من الاستمرار،
والتأقلم مع الظروف الرديئة المجبرين على
العيش ضمنها، ليس هذا فحسب، بل يستمرون
وهم يضحكون ويبعثون الضحكة على وجه كل من
يزورهم، ولكن الزائر لهم سيبتسم بوجههم
وغصة تملأ قلبه من الظروف التي جارت عليهم
من أولادهم أو أهاليهم، أو من بعض أفراد
المجتمع الذين لا يتقبلونهم، لكن القدرة
الإلهية لم تشأ أن يكونوا عديمي شأن
وأجساد بلا أرواح.
مؤخراً دشنت وزيرة الشؤون الاجتماعية
والعمل ديالا الحاج عارف مبنى دار العجزة
والمسنين في حماة بعد إتمام أعمال الصيانة
والترميم فيه، ودعت الوزيرة إلى استبدال
كلمة العجزة بالرعاية الأسرية نظراً
لدلالتها على أن الشخص المسن فقد القدرة
على كل شيء بينما هناك العديد من الأعمال
التي يمكن أن يقوم بها في هذا السن، كما
بينت استعداد الوزارة لمنح الترخيص اللازم
لأية جمعية أهلية تستوفي الشروط المطلوبة
سواءً على صعيد رعاية العجزة أو المسنين
أو في أي مجال آخر ضمن مجالات العمل
الخيري أو الأهلي، ومضيفة أن النهج الجديد
للوزارة في التعامل مع الجمعيات الأهلية
لا يتم بدعم مادي مباشر إنما من خلال
تقديم التسهيلات والتدريبات المباشرة حيث
استضافت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل
عدداً من العاملين في هذه الجمعية وغيرها
من الجمعيات الأهلية في سوريا ودربتهم في
دمشق.
وأكدت الحاج عارف بأنها تتمنى أن يُحتضن
كل شخص مسن في أسرته وليس خارجها.
دار واحدة في دمشق:
في سوريا دور العجزة التابعة لوزارة
الشؤون الاجتماعية والعمل هي إما حكومية
أو أهلية تشاركية بين الحكومة وجمعيات
خاصة تعنى برعاية المسنين، وتعد دار
الكرامة الدار الحكومية الوحيدة في دمشق
التي تهتم برعاية المسنين، والدور
التشاركية والجمعيات والمؤسسات التابعة
لها والتي تعنى بالمسنين تبلغ (20) داراً
وجميعها موزعة في المحافظات السوريّة.
وتضم دمشق وريفها (5) دور عجزة، إضافة إلى
جمعيات تهتم برعاية المسن، أما حلب ففيها
(5) جمعيات ودار، واللاذقية (3) وحمص (2)
وفي كل من طرطوس والسويداء والحسكة وجسر
الشغور وحماة دار واحدة.
دار الكرامة لجميع الوافدين:
في دمشق ومع كل الازدحام السكاني الموجود،
توجد دار حكومية واحدة للعجزة والمسنين،
وحبذا لو تدخل وترى ما الرعاية التي يحصل
عليها هؤلاء؟ وإذا أردت أن تبحث عن
السلبيات الموجودة في هذه الدار فستبدأ من
الاسم فهي تُدعى داراً للعجزة والمسنين،
ولكنك تجد فيها الأطفال والمسنين والشباب،
فإحدى الغرف تجد فيها أطفالاً معوقين
عقلياً ومعهم من هم بعمر الشباب وعقلهم
طبيعي، ولكن طالت الإعاقة أطرافهم، ويوجد
آخرون مصابون بشلل دماغي تمت محاصرتهم
بقضبان حديدية تحميهم من النوبات التي
تصيبهم على حسب أقوال المشرفين، وفي غرفة
بجانبهم ترى عجزة متخلفين عقلياً مع أصحاء،
ولكن لم يجدوا من يستقبلهم سوى هذا الدار.
وحول الشروط المعلنة لقبول الأشخاص، فإن
الدار تستقبل كل من يحمل بطاقة شخصية تؤكد
أنه من مواليد دمشق وتخطى الخمسين عاماً
دون أن يكون له معيل، لكن الواقع غير ذلك
ففي الدار ما يقارب (70 %) من النزلاء
معوقين على درجات مختلفة وبأعمار مختلفة
ومن محافظات مختلفة.
لا يوجد مختصون نفسيون:
وللحق فإن العاملين المشرفين على النزلاء
يتمتعون بروح إنسانية ومرحة ويقومون بخدمة
النزلاء بكل سرور، وبوجه رحب أمام
الزائرين والمسنين، ولكن لا يحمل أحدهم أي
اختصاص يُذكر فكيف سيتمكنون من التعامل مع
هذه الحالات المختلفة من الإعاقة، التي
ستبقى حالات غائبة تحت الظل بسبب عدم وجود
الاختصاص رغم أن العديد منها يمكن تطويره
وتحسينه بالمعالجة من قبل المختصين إن
وجدوا، ولكن لا يوجد أي مختص في الدار سوى
الطبيب المشرف، رغم كل الاضطرابات النفسية
الموجودة لدى بعض النزلاء ولذلك قد يحدث
بين النزلاء نزاعات يومية عن غير وعي تؤدي
لاضطرابات نفسية زائدة وإلى حالة من عدم
الاستقرار يحاول المشرفون ضبطها قدر
المستطاع، فكيف ستتم الرعاية الصحية
والنفسية على أكمل وجه؟
إذا تخلى ذوو وأقارب هؤلاء الأشخاص عنهم،
وماذا سيحل بهم لولا احتضان الدار لهم،
فقد اخترقت الدار شروط القبول لأنها لو لم
تأخذهم وتحفظ جزءاً من كرامتهم في إيوائها
لهم، لكان الشارع ملاذهم إلى الممات، رغم
أن الدار منذ إنشائها لم تحصل إلا على
بضعة ترميمات دون زيادة بعدد الغرف أو
إمكانيات الرعاية والعناية أو زيادة
الأطباء والمختصين مع ازدياد نزلاءها حتى
بات ينحشر في الغرفة الواحدة (7) أشخاص
لكثرة الوافدين، ومنذ مدة أتت الشرطة
للدار محضرة عجوزاً وجدتها في الشارع،
ولكن الدار اعتذرت عن استقبالها لأنها لا
تملك أي سرير فارغ.
تفاوت في الدور:
عند مقابلتك النزلاء في (دار الكرامة)
تشعر بالأمل والفرح رغم إعاقة البعض منهم
ورغم وجودهم في هذه الدار الوحيدة التي
تقدم لهم قليلاً من الرعاية بسبب ما تملكه
من ميزانية لا تفي بالغرض، فقد صمم بعضهم
على الإنجاز ودرسوا المرحلة الابتدائية
والإعدادية والثانوية ضمن الدار وهم الآن
يدرسون في الجامعة، ألا يستحق هؤلاء
اهتمام أكثر!
في حين ذكرت ميساء الشعباني مديرة (دار
السعادة للمسنين) بدمشق إن (دار السعادة)
مشروع خيري إنساني ساهمت بإنشائها مجموعة
من سيدات جمعية الإسعاف العام، وهي تتضمن
كافة وسائل الراحة والخدمة للمسن، موضحة
أنها تعتمد في تمويلها على التبرعات
والموارد التي تجنى من النزلاء القادرين
على دفعها إضافة إلى الاشتراكات الشهرية
أو السنوية التي يقدمها أعضاء الدار، ومن
بعض الموارد الأخرى التي ترفد ميزانيتها،
ونزلاء دار السعادة يشعرون بالسعادة فعلاً،
فالرعاية والخدمات التي تقدم لهم ما يزال
نزلاء دار الكرامة يحلمون ببعضها، وهنا
المشكلة ليست بسبب الموظفين أو الإدارة
وإنما بسبب ضعف ميزانية هذه الدار
الحكومية الوحيدة.
بعد (17) عاماً:
أجرى (جيل بيزون) المسؤول في المؤسسة
الوطنية الفرنسية للدراسات الديموغرافية
دراسة في (2009) نشرتها مجلة (نيوزويك)
الأمريكية، أشار في دراسته إلى أن الدول
النامية ستواجه بعد فترة من الزمن أزمة
المسنين، إذ أنّ تضاعُف عدد الأشخاص فوق
الـ(65) من العمر في فرنسا استغرق (114)
عاماً، واستغرق تضاعفه في الولايات
المتحدة (71) عاماً، لكن ذلك التحول سيحصل
بعد (17) سنة في بلداننا العربية، مُبيّناً
أن الدول النامية ستكون الأشد عرضة لموجة
المسنين، الأمر الذي سيجهد أنظمة الضمان
الاجتماعي وتراجع معدلات الولادة وهو ما
سيسبب نقصاً في عدد العمال الأصحاء
الأجسام القادرين على إعالة المسنين.
مرّت على الدول المتطورة أجيال من الناس
عملت على تأسيس شبكات أمانها المؤسساتية
وتعديلها من أجل المسنين، والخطر الكامن
هو بأن الدول العربية أقل استعداداً لذلك
بكثير والوقت المتوفر لها أقصر بكثير على
الرغم من أن الفرصة سانحة إن بدؤوا بجدية،
وسوريا إحدى هذه الدول المعنية بهذا الأمر،
لكن لماذا ما أعدته وزارة الصحة أو وزارة
الشؤون الاجتماعية والعمل فيما يخص هذا
الأمر يبقى بعيداً في الغالب عن
الاستراتيجيات والخطط المناسبة لاحتواء
هذه الحالة؟
المسن يحتاج لتقدير المجتمع له:
الكثير من الناس لا يؤمنون بوجود الرعاية
الحقيقية للمسنين في سوريا بشكل مطلق، لما
يرونه من خلال رصد بعض دور المسنين والعبث
الذي يحدث بحياة المسنين -وخلطهم مع أشخاص
تقع مسؤولية رعايتهم على وزارة الصحة-
وخصوصاً التي تتولاها الجمعيات الخيرية
والتابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل،
حيث لا توجد مخصصات مالية كافية.
بينت الأخصائية في علم النفس الدكتورة
إيمان عبد الرحمن أن وجود المسن في مناخ
أسري وطبيعي يبعث في نفسه الاطمئنان
ويجعله يتوافق اجتماعياً مع المحيط من
حوله وذلك يُهدئ من اضطراباته إذا كان
يُعاني من خرف أو أحد أمراض الشيخوخة وهو
يجد هذا الشيء في دار الرعاية، لكن من غير
الصحي جسدياً ونفسياً وضع عدة أشخاص مع
بعضهم في غرفة واحدة وإن كانوا من نفس
العمر، فكيف إذا كانوا من أعمار مختلفة
ويعانون من أمراض مختلفة، وتضيف: (هناك
الكثير من التغيير في المجال الاجتماعي
للمسن بتقدم العمر، وبعض هذا التغيير يأتي
نتيجة عجزه عن مجاراة وملاقاة ما تتطلبه
الحياة من تبدل في نمط علاقاته الاجتماعية،
والبعض الآخر يأتي بسبب ما يحدث من تفرق
أو تشتت عند أفراد الأسرة بسبب الوفاة أو
السفر، أو تغيرات اجتماعية تصيب المسن
بسبب التغيير في ظروف العمل أو تدني مستوى
المعيشة الأمر الذي يحدث تغيراً في الصلات
الإنسانية وفي أسلوب الحياة لديه وفي تصور
المسن لمكانته الاجتماعية وتقديره لنفسه
وجدوى حياته مع العائلة أو المجتمع ما
يدفع المسن إلى الشعور بالإحباط واختيار
العزلة الاجتماعية).
ويؤيد الدكتور في علم الاجتماع مؤيد الشيخ
أن: (علاج الشيخوخة التي تصيب المسن يكمن
في احترام حقوقه ورعايته وإحاطته بالعطف
والمحبة لأنه باعتقاده فهو قد عمل في
حياته من أجل المجتمع والمجتمع يجب أن يرد
له الاحترام وثمن خدمته وحتى يشعر بذلك
يجب في دور العجزة أن نتيح المجال للمسن
بالقيام ببعض الأعمال التي لا تتطلب إلا
جهداً بسيطاً لأن انجازها يجعله يشعر
بالفاعلية والكفاءة وبالتالي بالتقدير
لنفسه إذ ليس ما هو أشد وقعاً على نفس
المسن أكثر من أن يشعر أنه أصبح عاجزاً أو
أن مساهمته غير مهمة).
أين المشكلة؟
من جهة أخرى فهؤلاء المسنون أو العجزة إما
أن يكونوا أشخاص وُجدوا على قارعة الطريق
ولا أحد يسأل عنهم من ذويهم، مما يستدعي
أخذهم إلى (دار الكرامة) التي إما أن
تحويهم وتكدسهم فوق بعض بسبب الضغط الذي
تعانيه وإما أن ترفضهم وبالتالي يعود
هؤلاء إلى الشارع ونمر من جانبهم ونقول (ما
هذا المظهر الغير حضاري) وبالطبع لا
تستقبلهم أي دار أخرى سوى الكرامة لأن
بقية الدور تحتاج لأجور ومصاريف فإذا لم
يكونوا موظفين متقاعدين أو ممن لهم أقارب
يسألون عنهم فمصيرهم الشارع؟
دار حكومية ثانية:
هذه الفئة العمرية تحتاج لاهتمام كبير من
كلاً من وزارتي الشؤون الاجتماعية والعمل
ووزارة الصحة، حتى ننتقل من فكرة المسن
الذي ينتظر نهاية العمر إلى المسن الذي
يساهم في حراك المجتمع وتفعيله وتطويره من
خلال خبراته المتراكمة، ومن مهام دور
العجزة مساعدة المسنين على تجاوز تقلبات
الحياة الصحية والنفسية والمجتمعية، ولكي
تكون هذه الدور كافية على الأقل لاستيعاب
الأعداد المتزايدة، فلم لا يتم بناء دار
حكومية ثانية تستوعب كل هذه الأعداد وتقدم
الخدمة الصحية والنفسية اللازمة لكل شخص؟
أيضاً تعزيز التعاون والتنسيق بين وزارة
الصحة ووزارة الشؤون الاجتماعية والجهات
ذات العلاقة يساهم في احتواء الأعداد
المتزايدة، وتعريف الجهات الأخرى بأهمية
رعاية المسنين وزيادة ثقافة الناس حول
ضرورة زيارة وتقديم أبسط الأشياء من عطف
ورعاية وضحكة لأناس اعترف العالم أجمع
بحقوقهم وأهداهم يوماً سنوياً في الأول من
تشرين الأول للاحتفال بحقوق المسن، ولكن
كيف سيحتفل المسنون بحقوقهم إذا لم
يلمسوها؟
يجب أن ننتبه لهذا الخطر ونعترف بمشكلة
الإهمال النفسي والاجتماعي والمادي للمسن
ونبدأ بتأسيس شبكات أمان للمسنين، ويجب
عدم انتظار الأزمة التي ستتفاقم خلال
السنوات القادمة ونحن ننتظر!. |