يبدو لي أن الثورة الشعبية في تونس، أو
ثورة الشعب التونسي(هكذا ينبغي أن تسمى،
لا ثورة الياسمين ولا غيرها من الأسماء)،
ثورة الجماهير المقهورة والمظلومة على
جلاديها قد فاجأت الجميع، على الأقل في
جانبها الإجرائي العملياتي، وهذا ما أضفى
عليها أهمية استثنائية في الظروف العربية.
من الواضح أن الثورة قد اندلعت بدون تخطيط
مسبق، وبلا قيادة ميدانية، رغم ذلك فقد
تميزت بالانضباط إلى حد كبير، رغم
التشوهات التي حاولت عصابات النظام البائد
إلحاقها بالثورة، من خلال عمليات السلب
والنهب والتخريب التي قامت بها تجاه
مؤسسات عمومية وخاصة. ومن الواضح أيضا أن
الأحزاب التونسية التقليدية بدت منذ
اللحظة الأولى لشرارة الثورة التي أطلقها
بوعزيزي بحرق نفسه، مأخوذة بالحدث وبسرعة
انتشاره وتوسعة، مما جعلها تلهث وراءه، في
محاولة لإثبات الذات وللحصول على بعض
المكاسب، وهذا ما بدا واضحا في سرعة
استجابتها لدعوة بعض رموز النظام البائد
للمشاركة في الحكومة دون تبصر، وبدون
الإصرار على تبني خارطة طريق واضحة للتحول
إلى النظام الديمقراطي الحقيقي. لقد بدت
هذه المحاولات المستعجلة من رموز النظام
السابق لتشكيل الحكومة واستجابة بعض أحزاب
المعارضة لهذا المسعى، وكأنها محاولة
للالتفاف على الثورة، وإعادة الأوضاع إلى
ما كانت عليه، بتغيير بعض المظاهر
الديكورية لا غير. غير أن استمرار حركة
الشعب في الشارع تحت شعارات سياسية واضحة
وحاسمة، انه لا بديل عن الحرية
والديمقراطية، وبالتالي لا مساومة على
بقاء رموز العهد البائد في السلطة، خلال
المرحلة الانتقالية، شكل نوعا من
استمرارية قوة الضغط على بقايا النظام
التي لا تزال فاعلة وممسكة بالعديد من
مفاصل الدولة، وكذلك على قيادات الأحزاب
المعارضة التي سارعت لقبول دعوة الغنوشي
الوزير الأول للمشاركة في حكومة انتقالية،
مما دفع بعض رموز النظام لإعلان انسحابهم
من حزب التجمع الدستوري، وكذلك لانسحاب
أغلب وزراء المعارضة من الائتلاف الحكومي.
هذا يعني بوضوح أن الثورة بلغت مرحلة
النضج وبالتالي لن تسمح بالعودة إلى
الوراء.
لقد دشنت ثورة الشعب التونسي على نظام بن
علي الاستبدادي، حقبة تاريخية بالنسبة
لجميع الشعوب العربي، سوف تؤرخ وتعاير
بالقياس إليها جميع الأحداث التي سوف تجري،
بلا أدنى شك، بهذا الشكل أو ذاك، في جميع
الدول العربية. إنه النموذج العربي لثورة
الشعوب على جلاديها، وهو نموذج أصيل بكل
المعاني، وسوف يشكل موضوعا للتأمل
والدراسة والاستلهام لفترة طويلة، خصوصاُ
في وطننا العربي. بطبيعة الحال من المبكر،
والثورة لا تزال جارية، ومحاولات إجهاضها
أو تفريغها من محتواها، هي الأخرى جارية
على قدم وساق، الخوض في تفاصيلها التي لا
تزال مبعثرة في الشوارع والساحات، وتحتاج
إلى وقت للملمتها وتدوينها، وإن الأخوة في
تونس هم الأجدر للقيام بذلك. مع ذلك فإن
الثورة التونسية قدمت مجموعة من الدروس
البليغة والمعبرة نذكر منها:
الدرس الأول؛ هو أن الطبيعة الاستبدادية
الأمنية للنظام التونسي لم تحميه من
السقوط السريع. أهمية هذا الدرس تكمن في
قابليته للتعميم، ويبدو لي أن الشعوب
العربية سرعان ما سوف تستوعب الدرس،
وتستخلص منه العبر.
الدرس الثاني؛ هو أن رهان زين العابدين بن
علي على الجيش التونسي لكي يحمي نظامه
الاستبدادي في النهاية، لم يكن في محله.
لقد رفض قادة الجيش طلبه بتوجيه سلاحهم
إلى الشعب، وفي لحظة من لحظات تفكك النظام،
حسم الجيش خياره ووجه سلاحه إلى النظام
ذاته، وأخذ يطارد أقرباء بن علي وحاشيته،
وفلول ميليشياته. وهذا الدرس هو الآخر
قابل للتعميم، ويمكن الرهان عليه في ظروف
مشابهة.
الدرس الثالث؛ إن إفراغ المجتمع من
السياسة، من جراء تعميم القمع واستمراره،
ومطاردة الخصوم السياسيين، وتوزيعهم على
السجون أو المنافي، لم يعد صالحا للمحافظة
على بقاء الأنظمة المستبدة.
الدرس الرابع؛ إن الحزب المليوني الذي
يشكله المستبد على شاكلته، وكذلك المنظمات
الأهلية والمدنية والنقابية، التي يحولها
الاستبداد إلى مجرد أجهزة بعد قتل الروح
النقابية فيها، سرعان ما ترتد عليه في
لحظة من لحظات السقوط لتعجل به.
الدرس الخامس؛ من الواضح أن الثورة
التونسية قد فاجأت الدول الغربية، وحصلت
خارج أجندتها، وهي تلهث محاولة ضبط
إيقاعها وتحديد اتجاها. لقد تبين بالملموس
أن القوى الغربية التي تدعي حملها راية
الحرية والديمقراطية، قد فضحت الثورة
أمرها، وإنها في مجمل الأحوال لا تهتم سوى
بمصالحها التي تؤمنها القوى المستبدة
وحدها، أو نظام ديمقراطي من حيث الشكل،
كما كان عليه نظام بن علي، وكما هو حال
أغلبية الأنظمة العربية، يعيد إنتاج
الاستبداد باستمرار.
الدرس السادس؛ إن التضحيات التي قدمها
الشعب التونسي، والقوى السياسية المعارضة،
لم تذهب هدراً، لقد كانت بمثابة الوقود
الذي جعل شعلة الحرية والديمقراطية
والتنمية الوطنية متوهجة.
يشكل هذا الدرس رسالة لجميع الأنظمة
العربية المستبدة، تقول بوضوح العبارة: لم
يعد ينفع معكم محاولاتكم الخائبة تشويه
سمعة المناضلين في سبيل الحرية
والديمقراطية والتنمية الوطنية في بلدانكم،
بإلصاق تهمة العمالة للخارج بهم، فالثورة
التونسية قد برهنت على أن هذا الخارج هو
حليفكم والداعم لكم في مواجهة شعوبكم.
من جهة أخرى، يشكل هذا الدرس رسالة واضحة
أيضاً لجميع القوى السياسية في عالمنا
العربي التي راهنت، وربما لا تزال تراهن
على الغرب لكي يضغط على الحكام العرب من
أجل إجراء تغييرات في بلدانهم، أو في
الحالة القصوى لكي يصنع التغيير بنفسه،
كما حصل في العراق. الغرب لا يهمه أبداً
تطلع الشعوب العربية إلى الحرية، وليس له
مصلحة في الديمقراطية الحقيقية، ما يهمه
هو أمن إسرائيل والنفط والموقع
الاستراتيجي للوطن العربي، وهذه القضايا
لا يمكن تأمينها في ظروف الحرية
والديمقراطية، بل في ظروف الاستبداد.
الدرس السابع؛ لقد راهنت الأنظمة
الاستبدادية العربية كثيرا، على تحييد دور
الشباب في المجتمع، من خلال تسطيح وعيهم،
والسيطرة على منظماتهم، ومؤسساتهم
التعليمية...غير أن الثورة التونسية جاءت
لتؤكد زيف هذا الرهان، ولتعيد الاعتبار
للدور التاريخي للشباب.
الدرس الثامن؛ وهو موجه إلى الحكام العرب،
انظروا واتعظوا من تجربة زين العابدين بن
علي، إذ رفض أقرب أصدقائه له( الفرنسيون)
استقباله، كما رفضت إيطاليا ومالطا وغيرها
ذلك، رغم ملياراته وأطنان الذهب التي
سرقها من بلده، ولسان حالهم يقول: لقد
انتهى دوره. ثم هم لا يستطيعون تجاهل
شعوبهم، كما تفعلون. أشك بأنكم سوف
تستخلصون العبر من ذلك، إذ في السابق مرت
أمام أعينكم عبر مماثلة شديدة الوضوح فلم
تتعظوا.
إن دروس الثورة التونسية كثيرة و بلغية في
تعبيرها، وليس لدي أدنى شك في أنه سوف
يكتب عنها الكثير في المستقبل. ما أود
قوله قبل أن اختم هذه المقالة تضامنا مع
الثورة التونسية التي نأمل لها الوصول إلى
غاياتها وأهدافها، وأن تحقق لتونس الخضرا
ولشعبها الحرية والديمقراطية والتنمية
الشاملة هو ما يأتي:
إن أهمية الثورة التونسية تتجاوز حدود
تونس إلى الوطن العربي بأكمله، وهذا ما
سوف يضاعف كثيراً من حجم المؤامرات عليها
لإجهاضها أو تفريغها من مضمونها، إذ من
غير المسموح في الاستراتيجيات الغربية
حصول أي مناخ من الحرية والديمقراطية يمكن
أن يعيد إلى السلطة قوى سياسية يكون همها
التنمية الوطنية، أو يفسح في المجال
لخيارات سياسية معبرة حقيقة عن إرادة
الشعوب العربية. لذلك من الأهمية بمكان في
هذه المرحلة الانتقالية ليس التركيز على
هذه الشخص أو ذاك من حزب بن علي، ولا
ينبغي في مجمل الأحوال التركيز على حل حزب
التجمع الدستوري الديمقراطي، بل على
الإصلاح السياسي الجذري، بدء من إصلاح
الدستور، بما يؤسس لدولة مؤسسات حقيقية،
لا تسمح بعودة الاستبداد مرة أخرى. لا
ينبغي تكرار الخطأ الذي وقع فيه العراقيون
وذلك بحل حزب البعث ومؤسسات الدولة التي
كانت قائمة في عهده باعتبارها مؤسسات
حاملة للاستبداد، مما كلف شعب العراق
كثيراً، مع أن هذا الخطأ كان مقصودا
ومفروضا عليهم من الدولة الغازية. لا يجوز
ديمقراطيا الوقوع في السلوك المستبد ذاته
بإقصاء الآخرين المختلفين حتى لو كانوا
حزب المستبد ذاته، بل ينبغي طمأنة جميع
القوى الاجتماعية والسياسية التونسية أنه
في ظروف الحرية والديمقراطية ودولة
القانون والمؤسسات تتاح فرص متساوية
للجميع ليؤدي كل منهم دوره، وليدافع عن
مصالحه. بطبيعة الحال هذا لا يعني تطبيق
القاعدة ذاتها على من ارتكب أفعالا جرمية
جنائية بحق الشعب، أو المعارضين، في هذه
الحالات ينبغي تحكيم القانون وعدم التساهل
معهم.
كلمة أخيرة لقد تلقت الجماهير العربية
الثورة التونسية بفرحة عارمة، وتعاطف
وتضامن شديدين، بل حاول بعض العرب تقليد
بوعزيزي في احتجاجه على الظلم الذي لحق به،
على أمل أن تشتعل الثورة في بلدانهم. وليس
لدي أدنى شك بأن الشعوب العربية هي غيرها
بعد ثورة الشعب التونسي، وسوف يهتدي كل
منها بحسب ظروفه إلى طريقة مناسبة للضغط
على الحكام المستبدين، من اجل إجراء
إصلاحات سياسية حاسمة في أنظمة بلدانها
السياسية، وإلا فإن ثورة قادمة سوف تكنسهم.
ومن جهة أخرى تلقى الحكام العرب الثورة
بخوف وتوجس شديدين، وإن حالهم بعد الثورة
التونسية هو غيره بعدها. منهم من سوف يعيد
التشدد في أدواته الأمنية، ومنهم من سوف
يتظاهر بتجاهل الثورة، مع أنه في حقيقة
الأمر سوف يكون مشغولا بها حتى في نومه،
ومنهم من بدأ يلاقي بعض مفاعيلها باتخاذ
بعض الإجراءات الاقتصادية من قبيل تخفيض
أسعار بعض السلع الغذائية، أو تقديم الدعم
والمنح هنا أو هناك.. ما نود قوله لهم:
ليس بالخبز وحده يحي الإنسان، ولا بديل
بعد اليوم عن الحرية والديمقراطية
والتنمية الشاملة. |