تزداد المعاناة يوماً بعد يوم في
المحافظات السورية كافة، وفي الريف السوري
القريب والبعيد على السواء، نتيجة جملة
الكوارث التي لم تترك عائلة أو قرية أو
مدينة في مجتمعنا السوري إلا وإصابتها
بالشلل الكلي، حتى لا نكاد نجد شخصاً
سورياً كان فيما مضى متوسط الحال يعيش
باطمئنان ويستطع ضمان غده، إذا استطاع
إيجاد رغيف اليوم ليأكله مع عياله.. قد لا
يستطع غداً..
إن الفقر المدقع وقلة اهتمام الحكومة في
الريف ونقص الخدمات الاجتماعية
والاقتصادية والبنى التحتية المهدودة
والتعليم المهدد بالزوال... كلها أسباب
تجعل من الناس تبحث عن وضع أفضل يؤمن حياة
كريمة بعض الشيء، أعلى أهدافها وأسماها
توفير لقمة عيش بسيطة ومدرسة أو جامعة
يدخلها أفراد العائلة إذا سلموا نوعاً ما
ووجدوا عملاً يغطي تكاليف المدرسة، مع
وجود عمل لطالب الجامعة يكفل تأمين مصروفه.
إن انعدام ثقة السوريين بالحكومة، وعدم
صدق هذه الأخيرة في وعودها- التي غالباً
ما تكون مجرد جس نبض للشارع بغية معرفة
رجع الصدى ونوعية التأثير ومن ثم اتخاذ
القرار- إلى جانب استمرار الارتفاعات
المتتالية في الأسعار وإصدار القوانين
التي لا تفيد المواطنين الواقعين ضمن نطاق
حزام الفقر لا من قريب ولا من بعيد،
والتخلف الاقتصادي والاجتماعي والفساد
المتفشي في قطاعيّ الصحة والتعليم، ورفع
الدعم عن مادة المازوت وعن الزراعة، وعدم
استفادة الشعب من ثروات وطنه وامتلاك 5%
من الناس 80% من ناتج الاقتصاد المحلي،
و.. و.. و..
كل هذا جعل من المواطن السوري الذي يعيش
في ريف سورية ينزح إلى المدينة العاصمة أو
المدينة الصناعية بحلب... فالمدينتان
تشكلان العصب الرئيسي والشريان الأبهر
للنازحين من الريف جراء هذه الكوارث
المتلاحقة، ويلاحظ وجود تعاظم التعداد
السكاني في هاتين المدينتين بشكل سريع
مؤخراً، وخصوصاً في دمشق التي أصبحت مكتظة
بالنازحين، ومن ثم أصبح سكان هذه المدينة
يلجؤون إلى الريف المحيط للمدن، ما أدى
عملياً إلى توسع المدينة وزحفها وهجومها
بشكل عشوائي مخيف وغير منظم، ومازال
النزوح من الريف إلى المدن مستمراً ويشكل
عبئاً كبيراً عليها، ناهيك عما يحتمله
الريف نفسه، فهذا النزوح يتمثل في الشباب
إنما سيؤدي إلى انهيار القطاع الزراعي
كمهنة أساسية في الريف، وإلى تدهور
الإنتاج الزراعي بشكل عام، والسبب الرئيسي
ليس فقط النزوح بل يمكن أيضاً قلة
الاهتمام وعدم جدية الحكومة في دعم هذا
القطاع، وهذه بدوره يجعل من الاقتصاد
الوطني عرضةً للعجز ويضع النازحين في مهب
أطماع أصحاب المال والمتنفذين من الحكومة
بتشغيلهم بـ«بلاش»..
وكذلك فإن تدني المنتوج التعليمي في الريف
شجع كثيراً على النزوح، فقلة المدارس في
الريف والاعتماد على الخبرات المتدنية
وغير المجازة- وهي الحلول التي أوجدتها
حكومتنا كخطوة للتوفير- جعل من هذا القطاع
يتدنى في المستويات، ولا يبقى خيار للناس
سوى اللجوء إلى المدارس الخاصة وهي ذات
تكلفة مرتفعة جداً، وهو ما يؤدي من جهة
أخرى إلى ازدياد نسبة الأمية في الريف
بشكل ملحوظ وكبير، فينعكس ذلك ليس على
الريفيين النازحين وحسب، وإنما على جميع
السوريين، لآن نزوح أبناء الريف إلى المدن
يزيد في نسبة عدد الأميين في المدن ويزيد
في المشكلات التي تخلقها الأمية.
إن التخلف الاقتصادي وقلة الاهتمام بإصلاح
الريف والعناية من حيث إيجاد مشاريع
اقتصادية واجتماعية عديدة سيجعل من النزوح
إلى المدينة ظاهرة لا يمكن إيقافها،
وسيجعل من المدينة حالة فوضى في انتشار
العنف والجريمة وفساد الشباب النازح
والبطالة واختلاف البيئة والتفتح على
حريات لم تكن موجودة لدى النازحين بسبب
المراقبة من أهلهم وبيئتهم.
وفي رصد لحالة النازحين من الريف إلى
المدينة يتبين أن هؤلاء يعيشون في معظم
الأحيان في أحياء مستقلة ضمن إطار المدينة،
فيشكلون بيئة معزولة تسودها تقاليدهم
وعاداتهم، بالرغم من نقص الخدمات أو
انعدامها تماماً كما في عدرا وأوتايا
والشيفونية والأحواش القريبة من دوما، مثل
حوش الضواهرة وحوش نصري، ومعظم مدخول تلك
العائلات النازحة في هذه المناطق عائد من
عمالة النساء في الأراضي الزراعية.
إن افتقار النازحين للعناية الخاصة وإهمال
الحكومة لهم يجعلهم يتلهفون للحصول على
لقمة العيش بعيداً عن قراهم التي أنهكها
سوء الوضع المعيشي متضافراً مع ظروف
الجفاف، فزجت بهم المدينة بين محتاجيها،
ولم ترحمهم لا هي ولا عجلات أسياد المال،
فهم في معظم الأحيان متروكون وشأنهم غير
منصهرين ضمن كيان المدينة.. يواجهون
المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة
عن نزوحهم وحدهم، فعدم توفير الخدمات
اللازمة للنازحين بين السلطات المركزية
والسلطات المحلية الوطنية يجعلهم يتكبدون
مالا يطيقونه من ذل وهوان وأوجاع نتيجة
جبروت القوانين التي قست على أهل المدينة
ذاتهم فكيف على النازحين؟.
وبالعودة لأهم أسباب حالات النزوح من
الجزيرة يقول (ب.م) لـ«قاسيون» إن معظم
الناس في الجزيرة يعملون لدى إقطاعيين من
المتنفذين والمتسلطين في مزارعهم وأراضيهم
والأراضي التي يملكونها هم جرداء دمرها
الجفاف وقلة الموارد فأصبحت عارية تماماً،
بينما تنعم مزارع هؤلاء بالخضار والمياه
والعمالة لسنة كاملة وغير أن الذين يعملون
في أراضي هؤلاء الحفنة من المتسلطين
يعاملون بأشد أنواع الاستبداد وأكثرهم من
نواب سابقين أو مسؤولين كانوا على مستوى
رفيع في الحكومة.
إن هذا الوضع الذي يعانيه الريف السوري
والقرى جعل دفع الشباب السوري إلى قبول أي
عمل في المدينة علماً أنه غالباً ما لا
يتناسب مع تطلعاته، فإذا كان جامعياً أو
مساعداً مجازاً فستراه يعمل في المدينة
ببيع الشاي والسجائر أو سائق تكسي وبائع
أوراق يانصيب، في حين تعمل معظم نساء
النازحين في تنظيف دورات المياه..
وبالنتيجة فإن هذه الأعمال هي اقرب للتسول،
ويبدو واضحاً هنا أن سياسة الحكومات
المتعاقبة التي أهملت الريف ولم تنظر إلى
انخفاض مستوى المعيشة فيه بجدية، هي التي
أدت إلى إفقار الفلاحين ونزوحهم عن
أراضيهم وليس الجفاف هو المسؤول الوحيد. |