يحقّ
لمريم وصديقاتها أن يفعلن ما يشأن، أن
يعبثن مع الأولاد سراً تحت الدرج، وأن
يذهبن إلى عمل غير لائق، وأن يجمعن بقايا
سوق الخضرة في أكياس ويخبئنها في كيس
بعيداً عن الأنظار ليساومن عليها نساء
أخريات.
أقول يحق لهن فعل ذلك، فأي حياة تلك التي
تكون في غرفة صغيرة يشاركها فيها سبعة
أولاد صغار هم إخوتها، وأي حياة وسط برك
المياه وانقطاع الكهرباء وانعدام ملاعب
الأطفال.
أبوها يعمل في معمل (بلوك) منذ الصباح حتى
المساء لقاء مبلغ (8000) ليرة سوريّة في
الشهر تتوزع بالتساوي عليهم، فقد تحصل
مريم على فطيرة في اليوم الواحد، وقد
تتنازل عنها لأختها الصغرى.
مشاجرة من أجل مياه شرب:
هذه حياة (100) عائلة نزحت من مناطق عدّة
من أنحاء سوريا، واستوطنت في منطقة قرب
العاصمة دمشق، فكان حي تشرين، حي
المخالفات بامتياز: مخالفة الكهرباء
والماء، مخالفة البناء، مخالفة قوانين
وأنظمة، وأخيراً مخالفة شريعة الحياة، نعم
شريعة الحياة برمتها، وإلا ما حكم الذي
يبتزّ عائلة من أجل ربطة خبز، وما حكم آخر
يحتجز طفلة في حمام المدرسة طلباً للمال
من والدها، بحسب ما روت سيدة أربعينية
جلست أمام باب بيتها تنتظر بائع الحليب.
ما الذي يحدث بالضبط في حي تشرين؟ هل
فعلاً يحكمه الأقوى، ووسيلة عيش الناس فيه
هي السلاح الأبيض؟! لماذا غاب دور بعض
الجهات المعنية في إرساء دعائم حياة تشبه
على الأقل حياة باقي المناطق السورية، فهل
نجد مثلاً في منطقة (الدحاديل) مشاجرة
للحصول على بضعة ليترات مياه، هل نشهد في
حيّ المزة (86) اشتباكاً بالأيدي
والسكاكين من أجل وشاية وصلت إلى رئيس
البلدية بحقّ مخالفة في البناء، نسأل كما
يسألنا الأهالي: أين الدور الحكومي في وقف
جشع أصحاب الباصات الذين يمتنعون عن
الوصول إلى قلب الحيّ؟ وأين دوره في ضبط
عمليات بيع السمك واللبنة المغشوشة؟
كان رأيي بضرورة إزالة المخالفات قبل أن
أزور حي تشرين لأكتشف أن المخالفات
والعشوائيات تستقر في قلب مدينة دمشق،
وليس ضواحيها، ليس في ريفها، فأي إزالة
تكون؟ ومن يجرؤ على الاقتراب من عشوائيات
تكتظ بمئات النساء والأطفال والشيوخ؟ تقع
وسط المدينة وتعيش من مياهها وتستنزف
إمكانياتها. عشوائيات أبت إلا الاستقرار
حيث تنعدم سبل الحياة، فيصنعون خطوط
الهاتف بأيديهم، ويمدّون شبكات المياه إلى
بيوتهم بجمع المال من سكان الحي، ويحاولون
أقصى ما يستطيعون لخلق ما يشبه الحياة،
وهم ينجحون في غالب الأحيان.
تدخل إلى حي تشرين، الذي يبعد عن دمشق
بضعة أمتار، فتقابل وجوهاً تعبت من
الهرولة، من العمل بطريقة (الورديّات)، من
البحث الدائم عن منزل آخر بعد أن أنذرهم
صاحب البيت - الذي سكنوه لمدة ستة أشهر
فقط - وقرر بعدها زيادة أجرته أسوة
بارتفاع أسعار العقارات فباتت أرخص غرفة
تستأجر (7000 - 8000) ليرة سوريّة.
هؤلاء القاطنون في حي تشرين لا طابع لهم،
لا ينتمون لمكان جغرافي معين، لا يتبعون
عادات واحدة، كل عائلة أتت من محافظة،
البعض منهم دفعهُ الجفاف الذي اجتاح
محافظته الأم إلى البحث عن بديل آخر،
والبعض الآخر لم يجد عملاً في قريته،
وآخرون أتوا من (حفير) ومن ريف حلب النائي
ومن إدلب وأخيراً من القنيطرة والجولان.
تجمعوا فوق بقعة أرض ليشكلوا نسيجاً
اجتماعياً مختلفاً عن غيره، نسيجاً قوامه
العداء ونبذ كل فريق للآخر ثم اللجوء إلى
أساليب ملتوية لفرض السيطرة بطريقة أو
بأخرى، والنتيجة: عنف - سرقة - قتل -
اغتصاب، ففي حي تشرين لا يمكنك إطلاق حكم
على أحد، على شيء، على ظاهرة، والقاسم
المشترك الوحيد (الفقر - الحاجة -
المخالفة).
تمشي في حي تشرين فوق تراب وتعيش داخل
بيوت مفروشة بالتراب أيضاً وربما تأكل
خضاراً مغلفة بتراب، لكن قد يصادفك قدراً،
فتنجو من تحت أنقاض بناء سقط أو بناء آخر
هدمته البلدية تنفيذاً للمرسوم (59)
المعني بقمع مخالفات البناء، وتسأل أحدهم
يقف أمام حانوت صغير عن الخدمات العامة،
فيشير وهو يقول: (قمامة لا تفارق الزوايا،
شوارع تزفت اليوم وتحفر اليوم الثاني).
انتشرت أحياء المخالفات بكثرة في ذاك الحي
المسكين، رغم أنّ رئيس البلدية عماد
اللحام أكّد لي مراراً أنه ينفذ القانون
بحذافيره ويقمع كل مخالفة: (أتحدى أن تحصل
مخالفة واحدة على دوري، أما ما هو قائم
قبلي وسيقوم بعدي لا علاقة لي به، ماذا
أفعل إذا كانت المنطقة مليئة بمتعهدي
مخالفات، فقد بات لدينا اليوم في سوريا
متعهدو مخالفات بناء).
ليست مشكلة حي تشرين أنه منطقة عشوائيات
فحسب، مشكلته تكمن في أسلوب حياة المئات،
في قانون غاب عن حي بأكلمه، فلم يعد ينظمه
شيئ، فترى منزلاً يقطنه (12) فرداً وآخر
(15) فرداً، وغرفة بنيت في ساعة متأخرة من
الليل لتحوي خمسة أفراد يعملون في تصليح
الأحذية.
هل يتصوّر أحد كيف يذهب الآباء إلى عمل
يستمر من التاسعة صباحاً حتى الخامسة
مساءً لقاء أجر لا يتعدى في أحسن الأحوال
(7000) ليرة وأنا أتحدث عن (200) عامل
وليس واحداً أو اثنين، عمال لا يسري عليهم
أي قانون آخر سوى إرادة ورغبة ربّ العمل،
والتي في الغالب لا تكون في صالحهم، وإلا
ما تفسير أن تعمل «ريم» (11) سنة في صالة
أعراس لمدة عشر ساعات يومياً مقابل (300)
ليرة أسبوعياً، وكيف نبرّر عمل «أنس» (10)
سنوات في معمل إسفنج لقاء (100) ليرة في
الأسبوع، ومن يحمي «رغيد» طفل التاسعة من
عمالة أتت على جسده فقطعت أصبعه بآلة
الحديد أثناء عمله في منشأة حدادة، وأهله
ليس لديهم أدنى فكرة عن تعويض إصابة العمل
ولسان حالهم يقول: (كان رغيد يعمل وطرده
صاحب المنشأة بعد إصابته بأسبوع شغّل
مكانه ابن عمه «ياسر» وبمبلغ «75» ليرة في
يوم الجمعة).
مئات الأمثلة تشهد على طبيعة حياة شريحة
اجتماعية تأكل رقاب الدجاج («18» ليرة
للكيلوغرام الواحد) وتلبس ملابس مستعملة
(«25» ليرة للقطعة) وتشتري خضاراً
وبرتقالاً من النوع العاشر («10» ليرة
كيلو برتقال و»35» ليرة كيلو الموز)
وتحاول أن تصبّر نفسها حتى يحين المساء
ليمّدوا خلسة إلى بيوتهم خطوط الكهرباء
غير النظامية.
أم أحمد أتت من الجولان وسكنت في حي تشرين
منذ أحد عشر عاماً، تقول: (لم يتغير الحال
هنا، تركنا منزلنا الأول لأن صاحبه رفع
أجرته من «4000» إلى «7000» ليرة فبحثنا
عن آخر، كل الناس يعيشون بمتوسط دخل لا
يتجاوز «8000» ليرة).
سرقة بالجملة:
تجلس أم أيمن وابنتها أمام باب الدار
تترقب مجيء زوجها من العمل (بائع دخان في
سوق الحميدية) قدموا إلى حي تشرين، بعد
فيضان سدّ زيزون وعاشوا على أمل أن تعوضهم
الحكومة: (إلى الآن لم تعبّد الشوارع رغم
وعدهم بذلك منذ خمس سنوات عندما رفعنا
شكوى إلى رئيس لجنة الحي، دفعنا ضريبة
وترابية للمالية ولم نلق أي خدمة إضافية).
في حين يقول رئيس بلدية القابون: (المشكلة
في حي تشرين أننا نعمل ونعمل دون جدوى، لم
نقصر يوماً في تزفيت الشوارع، كل الشوارع،
هل أتحمل المسؤولية إذا جاءت مؤسسة الطرق
وخرّبت أو مواطن خالف بالبناء فهدمناه فوق
الزفت).
بينما يصرّ آخر من أعضاء الفرقة الحزبية
على أنّ حال أهالي حي تشرين أفضل من
غيرهم: (لا تتعاطفي مع من يعمل في التهريب
هم أغنياء بلا منازع لكنهم يحبون العيش في
عشوائيات واعتادوا على أن يخالفوا
القانون!).
تؤكد امرأة قدمت من اللاذقية وقطنت في هذا
الحي أنهم تعرضوا لحوادث سرقة كثيرة، لا
تعرف إذا كان مختار الحي أو مسؤول آخر
تمكن من إحصائها، فأحياناً كثيرة لا تأتي
أي جهة للتأكد منها أو ضبطها أو معرفة من
ورائها.
وتروي امرأة أخرى تعيش مع ابنها الوحيد في
الجزء الشمالي من الحي، عن أن شخصين دخلا
منزل خالها وسرقا أجهزة جوال ومبلغ (5000)
ليرة، وأيضاً جارتها سرق منها غاز وجهاز
تلفزيون ولم يُعرف السارق.
حوادث سرقة باتت واضحة لشهود عيان وظاهرة
للعلن يتحدث عنها حتى الموجودين في مناطق
مجاورة (القابون - التل - برزة) ولا
ينفيها رئيس قسم شرطة القابون الذي أصرّ
عليَّ بالتوجه إلى مكان آخر لمعرفة الضبوط
المنظمة بحق أهالي حي تشرين.
رئيس شرطة القابون أكدّ وجود سرقات
وأحياناً قتل وعمليات احتيال ونصب وذكر
أنه من حوالي أسبوع حقّق بمقتل شخص من
سكان حي تشرين، ويعزو المشكلة في ذلك إلى
أنه (الحي) يضم شرائح مختلفة من جميع
المحافظات: (كل سوريا تسكن هناك).
في حين يقول عصام إنّ الشرطة تبقى أياماً
في الحيّ عندما تكون قد سمعت عن عمليات
تهريب وشجارات بين السكان في حين ينفي
سماعه عن حالات قتل علماً أنه يسكن
المنطقة منذ خمسة عشر عاماً.
أمل براتب الوزارة المنشود:
تتطلع «أم ياسر» عاملة خياطة إلى نتائج
المسح الاجتماعي الأخير الذي نظمته وزارة
العمل، وأم ياسر تسكن وزوجها وسبعة أولاد
في غرفة ومطبخ صغيرين: (عندما أعلنوا عن
تسجيل الفقراء في الوزارة ذهب كل أهالي
الحي.. لكن هل تعرفين متى النتيجة؟ نحن لا
نعرف، يجب أن ننال أول الناس المسجلين
لأنّ زوجي مقعد).
الغريب في الصورة الأخرى التي ربما تغيب
عن ذهن صحفي أو مستطلع لأوضاع الأهالي في
حي تشرين، التناقض الهائل بين مكونات الحي
ومفاهيم سكانه، والكمّ الهائل من
المفارقات، كيف تسنى لهذه المفارقات أن
تظهر وأن ترسم مشهداً لا يحمل أي شخصية
مميزة؟.
أليس التناقض أن يعيش الفقر في أحياء
متناثرة لترى الجيران قد تجمعوا أمام كأس
(متة) لا يأبهون بكومة قمامة تقترب منهم،
أليس التناقض أن ترتدي الأم ذهباً أصفر
يلمع بشدة وأولادها يأكلون الخبز والشاي.
كيف لنا أن نقول هؤلاء فقراء ودفعوا
(100000) ليرة لبناء غرفة (بالتهريب)
لتأتي البلدية وتهدّمها، ثم نراهم في
اليوم التالي يقدمون على تصرف مشابه؟!
لكن لو فتحت البراد لم تجد سوى (رقاب
الدجاج) وسألت عن التلفاز ولم تجده عند
غالبيتهم، ماذا ستقول؟!
لو عرفت أن غالبية الأولاد لا يذهبون إلى
المدارس بل يعملون في بيع اليانصيب -
الجوارب - الخضار - البوظة - الدخان
المهرب، وفي معامل ومصانع قريبة منهم (في
حرستا) ماذا ستحكم على هؤلاء؟ هل سنزور
الحي يوماً ونرى مدرسة قريبة تؤمن للأطفال
تعليماً يسيراً بدلاً من السير كيلومترات
للوصول إلى المدرسة.
أما لو اطلعت على قائمة عند إحدى الجمعيات
الخيرية وعرفت أنّ معظم زائريها من هذا
الحي يأتون للوقوف من الصباح حتى المساء
ليحصلوا على نصف كيلو سكر، ماذا يمكن أن
تعلق؟
أما المفارقة كانت لدى سؤالي سيدة جميلة
أم لخمس أولاد قد زوّجت ابنها الكبير في
غرفة وجلست مع البقية في غرفة أخرى مع
زوجها، سألتها كيف تعيش مع زوجها حياة
زوجية سليمة، فضحكت وقالت: (والله نسرقها
سرقة تلك الفعلة).
أي سرقة هذه التي تأتي بطفل إلى مستنقع
المخالفات والعشوائيات، مستنقع الحمام في
العراء (ميدانياً) مستنقع العيش بانتظار
أمل أن تقوم الحكومة يوماً بحلِّ مشكلة
(ما يتجاوز «5000» عائلة) يزداد وضعهم
سوءاً كلما ازدادت الحياة تطوراً، وتعيدهم
من حيث جاؤوا إلى أرضهم الأصلية القديمة،
إلى حديقتهم في بلدتهم الأولى، حيث عيشهم
الكريم بعيداً عن البلدية وجشع تجار
المخالفات. |