يخطئ كل من يتصور ان سوريا ذاهبة الى
الحرب الداخلية او الحرب الاهلية كما يحلو
للبعض ان يصفوها. واساس الخطأ في التقدير،
انه لا يقوم على معرفة واقعية بالسوريين،
ولا بظروفهم بما فيها الحالية، التي هي
محصلة لما مروا به من ظروف وشروط، وما
اعترضهم من تحديات في الاعوام الخمسين
الماضية من حكم حزب البعث، وما جلبته
عليهم من ازمات ومشاكل.
ولعله لا يحتاج الى تأكيد، ان السوريين
شعب مسالم، وهو ابعد ما يكون عن العنف
واستخدام السلاح. وتاريخ السوريين شاهد حي
على حقيقة كهذه، بل ان السوريين هم شعب
التسويات والمقاربات الهادفة الى معالجة
المشاكل بطرق سلمية، وتلك ميزة من مزايا
المجتمعات التاريخية، التي رسخت اشكالاً
من الوجود الانساني المستمر من جهة وكرست
اشكال من التعاون بين البشر بغض النظر عن
خلفياتهم العرقية والدينية والاجتماعية،
ويكفي التدقيق بواقع التنوع السوري
للاقرار بقدرة السوريين على الاستمرار على
العيش في نسيج واحد، وهو امر يتأكد في
حدود دمشق التاريخية، عاصمة السوريين،
التي احتوت وما تزال تعبيرات هذا التنوع
والتعدد البشري ورغبته في العيش في اطار
تجربة مستمرة منذ القديم.
وباستثناء ما سبق، فان في تجارب السوريين
الحديثة والمعاصرة الكثير مما يستحق
التوقف عنده في تأكيداتهم على وحدتهم
الكلية، في انتمائهم الى جماعة وطنية
واحدة مع الحفاظ على علاقاتهم بروابطهم
المحيطة القومية والدينية والثقافية، وهي
امور عبرت عنها الجماعات السياسية التي
عاشت في سوريا في العقود الماضية وبخاصة
في فترة ما بعد الاستقلال، وكان الامر
واضحاً في تجارب الاحزاب العربية والكردية
والاشورية، كما في تجارب الاحزاب
الاسلامية واليسارية وغيرها، التي عكست
طبيعة السوريين في مد جسور التواصل دون ان
يتسبب ذلك في نبذ او نفي مدمر لاي واحدة
من تلك الجماعات من جانب المجتمع السوري.
كما ان بين التجارب الحديثة والمعاصرة
لتوافقات واتفاقات السوريين على شخصياتهم
الوطنية، والتي لم يكن الاساس في التوافق
عليها سوى اندماجها في المصلحة الوطنية
العليا على نحو ما كانت عليه زعامات
النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي امثال
صالح العلي وسلطان الاطرش وفارس الخوري
وابراهيم هنانو وسعيد العاص ومئات غيرهم،
لم يكونوا محكومين الا بمصلحة السوريين في
التخلص من الاستعمار، وحصول السوريين على
حريتهم واستقلالهم.
وقد استمرت تجربة التوافقات السورية في
فترة ما بعد الاستقلال في ظل النظام
الديموقراطي البرلماني، سعياً من اجل
ترسيخ نظام الاستقلال والتنمية الاقتصادية
والاجتماعية، رغم دخول العسكريين على خط
السلطة وهو الامر الذي حسم باستيلاء
العسكريين على السلطة بصورة نهائية في
آذار/مارس 1963، ووضع البلاد في مسارات
قادت الى الوضع الحالي بما فيه من
احتدامات، يعتبرها البعض مؤشرات للدخول في
بوابة الحرب الداخلية.
واذا كان ما تقدم بين دلالات يفسر معارضة
السوريين للذهاب باتجاه حرب داخلية، فإن
في القريب السوري عاملا مهما يمنع
السوريين من الذهاب اليها، والمقصود بذلك
التجربة المؤلمة لفترة الثمانينيات، عندما
اشتبكت جماعات «اسلامية» مسلحة مع النظام،
واتخذت الاشتباكات طابعاً طائفياً استفاد
منها النظام في تصفية الحراك الوطني
الديموقراطي في حينها، ومنذ ذلك الوقت
والسوريون يتابعون تصفية الاثار السياسية
والاجتماعية والانسانية لتلك الفترة
وآلامها، وهذه التركة الثقيلة في تقديري
تمنع السوريين من مجرد التفكير في الذهاب
الى حرب داخلية.
وباستثناء العوامل السابقة، فإن ثمة عوامل
راهنة تعزز رفض السوريين الذهاب نحو حرب
داخلية، لعل الابرز في هذه العوامل، وجود
عامل خارجي يمثله ما حدث في العراق بعد
الاحتلال الاميركي من حرب داخلية، كلفت (ولا
تزال) العراقيين الكثير، ومثلها الحرب في
ليبيا ضد نظام القذافي، وكانت تكلفتها على
الليبيين كبيرة، اما الاهم في العوامل
الداخلية، فيستند الى الخيار السلمي الذي
تبناه السوريون في ان ثورتهم على النظام،
حيث اتخذت مسارها السلمي منذ البداية وما
تزال، وهو لا يعكس فقط خوف السوريين من
اختلالات ميزان القوى لصالح النظام من
الناحية العسكرية بمقدار حرصهم على عدم
الانجرار الى صراع يستحيل تحقيق «نصر» فيه،
ما يجعل الشعب الخاسر الوحيد والنظام
الرابح في بقائه في سدة السلطة.
ان وعي السوريين باخطار الحرب الداخلية،
دفعهم لاختيار السلمية طريقاً في مواجهة
النظام، والاصرار عليها رغم القمع العاري
الذي مارسه النظام ضد الحراك الشعبي، وجرى
تحت ظله قتل آلاف السوريين وجرح واعتقال
وتشريد مئات الآلاف في ثمانية اشهر فقط،
وهي نتائج ماسوية دفعت لظهور اتجاهين في
الداخل السوري، اولهما انشقاقات داخل
القوى العسكرية، والثاني بروز اصوات تنادي
بالتسلح وتحويل ثورة السوريين الى عمل
مسلح، بل ان بعضاً من اعمال مسلحة حدثت في
بعض المناطق ولا سيما في المناطق الملتهبة.
وهذه هي المؤشرات، التي يعتبرها البعض
اساس ذهاب السوريين الى حرب داخلية. غير
انها مؤشرات لا تصمد امام المعطيات
الكثيرة التي تؤكد رفض السوريين الذهاب
بهذا الاتجاه رغم كل معاناتهم الراهنة
واحتمالاتها.
كاتب وناشط سوري |