نيويورك: ديفيد دبليو دنلاب *
تخيل للحظة مكانا يقع على بعد خطوات قليلة
من منطقة سيتي هول في وسط مدينة نيويورك،
ولكنه ينتمي إلى عالم آخر بعيد.. إنه
السلام.
نعم، هذه هي الرائحة القوية للقهوة والتين
والليمون والحلويات التي تذكر المتسوقين
بأيام طفولتهم في دمشق وبيروت. كما تعج
البازارات المنتشرة في هذا المكان بالسجاد
المصنوع يدويا والمصابيح النحاسية
والنرجيلة، ويضع الرجال السائرون فيه
الطربوش فوق رؤوسهم، ويرتدي عدد قليل من
النساء الحجاب. والصحيفة الرئيسية في
المنطقة هي صحيفة «الهدى»، وتعلق على
المحال لافتات عربية مثل محل «رحيم وملحمي»
ومحل «نور ومعلوف» و«إخوان ساهادي».
هذا ليس ما سيبدو عليه الجزء الجنوبي
الغربي من مانهاتن في حال تم بناء المركز
الإسلامي المثير للجدل على بعد بنايتين من
موقع مركز التجارة العالمي، بل هو ما كانت
تبدو عليه المنطقة قبل عقود من التفكير في
بناء مركز التجارة العالمي، وهذا هو
تراثها.
إلا أن هذا الحي سقط من الذاكرة، وغطى
الجدل الدائر حول المركز الإسلامي على
تاريخ شارع واشنطن الذي كان يسمى «قلب
العالم العربي في مدينة نيويورك»، كما
وصفته صحيفة «نيويورك تايمز» عام 1946،
وذلك قبل فترة وجيزة من انتقال الجالية
العربية الأميركية بشكل كامل تقريبا إلى
مكان آخر بسبب بناء مدخل لنفق بروكلين
باتيري.
ولتوضيح الأمر أكثر.. فإن هذا الحي، الذي
كان يسمى «ليتل سورية» أو «سورية الصغيرة»،
كان يقع جنوب ما سيصبح بعد ذلك موقعا
لمركز التجارة العالمي، في حين سيكون
المركز الإسلامي في شمال هذه المنطقة. وقد
كان المسلمون، خاصة الفلسطينيين، يشكلون 5
في المائة من سكان هذا الحي، وكان معظم
السوريين واللبنانيين الذين يقطنونه
مسيحيين.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأماكن
والأصوات والروائح القديمة في شارع واشنطن،
تذكرنا بأنه في نيويورك، المدينة ذات
الطبقات الكثيفة التي تشبه طبقات البقلاوة،
لا يوجد أحد يمكنه ادعاء ملكية نهائية لأي
جزء من أجزائها، والتاريخ يمكن أن يأتي
ببعض الناس في أماكن غريبة. (وعلى سبيل
المثال، فالكنيسة المعمدانية الحبشية،
كانت تقع في وقت من الأوقات في شارع «وفرلي
بليس»).
وقد كتب غريغوري أورفاليا في كتابه «الأميركيون
العرب» (آراب أميركانز) (أولف برنش برس،
2006) يقول: لقد كان شارع واشنطن «إحدى
المناطق الأولى في العالم الجديد، التي
انتقل إليها العرب ببضائعهم، وعملوا في
مصانعها التي كانت تستغل العمال، وعاشوا
في مساكنها وعلقوا لافتاتهم على محالها».
وكان من بين العرب الذين عاشوا في هذا
الشارع جدة أورفاليا، نظيرة جبالي
أورفاليا، التي هاجرت من سورية إلى
نيويورك عام 1890.
وقد علق أورفاليا على ذلك خلال مقابلة معه
قائلا: «كانت جدتي تتجول في شارع واشنطن،
فهي بائعة متجولة. ولا يساورني شك في أنها
كانت تأخذ الأموال من الموردين والمساهمين
في شارع واشنطن».
ويعزو أورفاليا هجرة السوريين واللبنانيين
والفلسطينيين إلى نيويورك لانتشار
المجاعات وغياب القانون والتجنيد الإلزامي
وكثرة الضرائب والتعصب الديني في بلادهم
وأنشطة التبشير التي كانت تقوم بها
البعثات التبشيرية الأميركية والمشكلات
الاقتصادية التي دفعتهم إلى الهجرة إلى
عالم جديد توجد بها ثقافات مختلفة.
وقد كتب كونراد بريكوفيتش عام 1924 في
كتاب «حول العالم في نيويورك» يقول:
«تختلط أصوات الأمهات وهن ينادين على
أطفالهن الذين يلعبون في الشارع باللغة
العربية، مع موسيقى الجاز الآتية من منزل
آخر، واللعنات التي يطلقها سائقو الشاحنات
في طريقهم إلى أرصفة الموانئ». وقد أشار
أيضا إلى مستوطنة اليونانيين، التي كانت
تقع بالقرب من هذا المكان وتسمى «ليتل
أثينز» أو (أثينا الصغيرة). وقد شهدت
«سورية الصغيرة» أول اعتماد لطباعة
«لينوتيب» للحروف العربية بجهود من
الأخوين ناعوم وسلوم موكارزيل، اللذين
يعملان في صحيفة «الهدى»، وهو «ما يسر
وحفز بشكل كبير نمو الصحافة العربية في
الشرق الأوسط»، وذلك بحسب مقال نشر في
صحيفة «نيويورك تايمز» عام 1948. ولكن
وجود المثقفين في هذا المكان لم يكن
يحميهم من المشكلات الناتجة عن الصور
النمطية، فقد نشرت صحيفة «ذا تايمز»
تقريرا عن معركة وقعت في هذا الحي في عام
1905 قام بها «سوريون متوحشون»، وذلك بحسب
وصف الصحيفة لهم.
*خدمة «نيويورك تايمز» |