تزداد في الآونة الأخيرة أهمية التعاطي
جدياً مع موضوع معالجة مياه الصرف الصحي
في سورية، التي تعاني نقصاً في معدلات
أمطارها وموارد مياهها، واستفحالاً في
مشاكلها البيئية، والغريب أن الحكومة
سارعت مؤخراً للقاء العديد من ممثلي
الشركات النمساوية والألمانية، في إطار
مشروع يهدف إلى استيراد 222 محطة جديدة
لمعالجة مياه الصرف الصحي، والمثير
للاستهجان هو أن هذه البلدان ذاتها قد
تخلت منذ زمن عن هذه التقانات في التعامل
مع مياه الصرف الصحي، وتحولت إلى تقانات
جديدة قليلة التكاليف وصديقة للبيئة، وبقي
لديها مشكلة التخلص المربح من تقانة قديمة
عفا عليها الزمن.. فما كان منها إلا أن
راحت تبيعها للدول التي تعتبرها متخلفة..
محطات معالجة.. بحاجة لمعالجة!!
ثمة سببان أساسيان يجعلان من فكرة استقدام
محطات معالجة لمياه الصرف الصحي مجرد هدر
لأموال الدولة، وباباً مفتوحاً على
مصراعيه للفساد عبر إجراء مناقصات، وأخذ (كومسيونات)
من الشركات الأجنبية التي تسعى للتخلص من
الأجيال السابقة من تقاناتها.
الموجب الأول لنبذ هذه التقانة في سورية
يستند إلى قيام بعض الباحثين السوريين
بدراسة مدخلات هذه المحطات من مياه الصرف
الصحي، ومقارنتها بالمياه المعالجة
الناتجة عنها، وكانت النتيجة مذهلة، فمحطة
السلمية مثلاً، التي بلغت تكلفة إنشائها
مليارات، فشلت في زحزحة نسب كل من الـBOD
، والـCOD ، والفيروسات في المياه
المعالجة، وبالتالي فقد أخفقت هذه التقنية
في تخليص مياه الصرف الصحي من أهم المواد
التي تعيق استخدامها في مرة أخرى، وخاصة
في الري، علماً أن تكلفة تشغيل هذه المحطة
الصغيرة في السلمية تبلغ 3 مليون ليرة
سورية شهرياً. ولا يختلف واقع الحال في
المحطات الخمس الأساسية الموجودة في كل من
(دمشق، حمص، حلب، حماه، ومدينة الأسد)،
وكذلك في المحطات الأخرى الأصغر، وتجرى
باستمرار العديد من التحاليل في هذه
المحطات مثبتة هذه الحقائق، التي يتم
تجاهلها باستمرار، ليعاد استخدام المياه
الناتجة عن المعالجة في سقاية المزروعات،
مما يجعلها تأخذ طريقها إلى أجساد
المواطنين مسببة أمراضاً كثيرة.
فضلا عن المياه «المعالجة»، ينتج في
المحطة بعد عمليات الترسيب المتتالية
كميات كبيرة من المواد العضوية sludge أو
الحمأة، تستقر في أحواض الترسيب الضخمة،
وهذه الأخرى هي نفاية أكثر خطورة من مياه
الصرف ذاتها ولا تخضع لمعالجة لاحقة، إذ
أن وزارة الزراعة لم تسعى للاستفادة من
هذه الرواسب العضوية التي يمكن تحويلها
إلى منتج ثانوي اقتصادي هو الكومبوست،
ويعود السبب في ذلك إلى إلقاء المعامل
نفاياتها التي تحوي العديد من المواد
الثقيلة في الشبكة ذاتها التي تتلقى
مخلفات المدينة، وتتجاهل الوزارة ضرورة
إجبار المعامل على معالجة نفاياتها جزئياً
بحيث تصبح صالحة للطرح في المجرور العام.
بديل مزدوج.. يعالج مياه الصرف الصحي
والفساد
في هذا الإطار تطرح العديد من الخبرات
السورية بديلاً قليل النفقات، لا يحتاج
استيراد أي تكنولوجيا معقدة كانت أو بسيطة،
مما يسد إلى الأبد الباب الواسع المفتوح
للفاسدين في هذا القطاع، وتنتفي فيه أية
نفايات ضارة للبيئة أو لصحة المواطن،
وتتلخص هذه التقنية فيما يسمى الـ wetland
أو الأرض الرطبة، إذ نضع في منطقة منخفضة،
طبقات من الحصى فالرمل فنوع من التربة، ثم
تزرع بنوع من النباتات مثل التيفا أو
القصب البري، إذ يمر الدفق المائي عبر هذه
الأرض مع فترة مكوث معينة حسب ارتفاع
الحوض، وتخرج المياه من الطرف الآخر للحوض
نقية تماماً وصالحة للسقاية، ثم تحصد
النباتات التي زرعت بهدف امتصاص المواد
الثقيلة القادمة مع الصرف الصناعي وترمد
ثم يتم التعامل معها وفق اتفاقية (بازل)
الدولية على أنها مواد خطرة، وتعتبر
تكاليف هذه العملية متواضعة جدا بالنسبة
لأنهار الأموال المتسربة من خزينة الدولة
لاستيراد محطات المعالجة من دول الاتحاد
الأوروبي التي تبنت منذ زمن تقانة
الـwetland لمعالجة مياه الصرف الصحي فيها.
أما بالنسبة لجبال الرواسب العضوية
المتراكمة في محطات المعالجة في سورية،
فمن الممكن الاستفادة منها والحصول على
قيم مضافة للدخل الوطني بمشروع صفري
التكاليف، حيث يمكن بسط هذه الرواسب
العضوية في آلاف الهكتارات في منطقة حسياء،
وتزرع بنباتات قادرة على تخليص الرواسب
العضوية من المواد الثقيلة التي حملها
الصرف الصناعي إليها، فنحصل على رواسب
خالية من المواد الخطرة، تحصد النباتات
وترمد وتعامل كنفاية خطرة، وتترك الرواسب
في الأرض فتتكفل أشعة الشمس بتحويلها إلى
سماد الكومبوست عالي الجودة.
تتسم قضية إيجاد حلول عملية وحقيقية
لمشكلة الصرف الصحي بأهمية قصوى من الوجهة
الصحية، نتيجة ارتباط ازدياد نسبة الحمولة
الاستروجينية في مياه الصرف الصحي بارتفاع
معدلات سرطان الثدي وسرطان البروستات، حيث
بينت إحدى الباحثات السوريات في مجال
الكيمياء البيئية في دراسة حول تقدير
الحمولة الاستروجينية في مياه الصرف الصحي
في سورية، أن هذه الحمولة تزيد عن تلك
الموجودة في مياه الصرف الصحي في تركيا
بمرة ونصف، وعن رومانيا بمرتين، وعن دول
الاتحاد الأوروبي بثلاث مرات، وذلك نتيجة
عدم وجود معاملات تمديد من أمطار وثلوج،
وكون هذه المياه تستخدم في السقاية، فإنها
تصل إلى الإنسان مهددة بخطر السرطان
وارتفاع معدلاته.. |