يبدو
أن الكتابة عن أي موقع من مواقع الفساد
المختلفة، وما أكثرها في البلاد، تفتح
شهية المتأذين من هذه الظاهرة ليقولوا
المزيد، فرغم كل الضغوطات المتزايدة على
سلامة سلوكهم الوظيفي، إلا أنهم يسارعون
لمد يد العون لنا بفتح ملفات خطيرة..
وموضوع تحقيقنا لهذا العدد هو خير مثال
على ذلك، إذ للمرة الثانية خلال أقل من
شهر سنقوم بفتح ملفات الفساد في وزارة
الصحة بدعم من الشرفاء، رغم أن عرضنا
للعديد من الدلائل والحقائق والوثائق
المتوفرة لدينا والتي اعتمدنا عليها في
التحقيق الأول، وهي تدين أهم مفاصل
الهيكلية الإدارية في وزارة الصحة، لم
تحفّز أية من الجهات المعنية لمتابعة
القضية، أو فتح تحقيق حول المواضيع التي
أثارتها الجريدة، حيث بقيت هذه الجهات
صامتة ولم تحرك ساكناً، وخاصة الهيئة
المركزية للرقابة والتفتيش، ورئاسة مجلس
الوزراء التي لا تترك مؤتمراً أو اجتماعاً
أو حتى لقاءً جماهيرياً وتطلب فيه من
المواطنين والنقابات والمنظمات الشعبية،
تقديم براهين أو أدلة، أو حتى إشارات
لأماكن الفساد لكي تتم المحاسبة ومعاقبة
المسيئين، لا بل اتهم رئيس مجلس الوزراء
في الاجتماع الأخير للاتحاد العام لنقابات
العمال القيادات النقابية بأنه طيلة
الفترة السابقة لم تقدم بأية مذكرة أو
كتاب عن الفاسدين من المدراء والوزراء..
فماذا يقول عن الحقائق التالية التي تسببت
بخسارة الدولة بحوالي ملياري ليرة سورية ؟
مليار ليرة ثمن جرعات الأنفلونزا
كل من في وزارة الصحة على يقين بأن اللجنة
الوحيدة التي تم تشكيلها من أجل دراسة
عروض استجرار دواء أنفلونزا الخنازير
تجاوزت عمداً أهم «جهة» في الوزارة من
اللجنة، ولم يؤخذ منها أية استشارة عن
اللقاحات لا من حيث الكمية ولا من حيث
النوعية، وهكذا اكتفت اللجنة المكلفة
باستيراد الدواء بموافقة رئاسة مجلس
الوزراء، استجرت الدواء بكميات خيالية،
حيث تمت الموافقة على استيراد /5/ ملايين
جرعة من أنفلونزا الخنازير يقارب ثمنها
مليار ومائتي مليون ليرة على أقل تقدير،
ويوجد حتى الآن في أحد المستودعات أكثر من
/ثلاثمئة ألف/ جرعة ثمن الواحدة /6/ يورو،
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا، هو
أين ذهبت كل هذه الجرعات؟ ولمن أعطيت
أصلاً؟ وهل مازالت مدة الصلاحية قائمة؟
وما يلفت الانتباه هنا أن شركة أخرى قدمت
عرضها لتقديم هذا الدواء وبسعر اقل أي بـ/5/
يورو، ومع ذلك أصرت الوزارة على الاستيراد
عن طريق الشركة الفرنسية التي يقال إن
وكيلها المعتمد الذي تم الاتفاق معه صديق
لشخصية هامة في الوزارة، لهذا لم تكلف
الوزارة أية لجنة مختصة لدراسة العرض، لكن
الأخطر في استيراد هذه اللقاحات أنها
استجرت بعد أن أعلنت السلطات الصحية في
الولايات المتحدة الأمريكية سحب أكثر من
تسعمئة ألف جرعة من الدواء، وجاء قرارهم
نتيجة اكتشاف أخطاء في المواصفات
والعينات، والسؤال هو لماذا لم تتقيد
الوزارة بالتعميم نفسه حرصاً على صحة
المواطنين؟
لابدَّ أن لجنتنا (الفنية) التي درست
العرض كانت أفهم من الأمريكان أنفسهم
الذين صنعوا المرض والدواء معاً كما تبين
لاحقاً.
مخابر تحليلية أم مخابر للصفقات؟
المخابر التحليلية في العالم كله تسعى
للحصول على نتائج تحليلية صحيحة ودقيقة،
فمهمتها إثبات مستوى الدقة التي تتميز بها
نتائجها عبر عرض براهين موضوعية معترف بها
على النطاق العالمي، ولتحقيق ذلك لابد من
تطبيق نظام الجودة وإدخال آليات ضبط
الجودة في صلب العمليات التحليلية اليومية
وبشكل منهجي ومنظم بحيث تصبح هذه العمليات
جزءاً من العمل الروتيني اليومي للكشف عن
أية مشاكل تحليلية أو مفارقات أو اختلاطات
في النتائج التحليلية، لكن في سورية الوضع
مختلف والسائد هو نظام الجودة وليس
الاعتمادية، وهذا ينطبق على المخابر
والمشافي، فلنتصور أن يتم معالجة المصابة
بسرطان الثدي بأدوية مرض الكبد أو سرطان
الرئة مثلاً، والواقع يثبت وجود هذا
الخلط، فهيئة المخابر الطبية رفعت أكثر من
مرة أسماء مخابر مخالفة لكل الشروط
والمواصفات المطلوبة وطالبت بإغلاقها، لكن
الوزارة كعادتها لم تفعل شيئاً، والشواهد
على هذه الأخطاء كثيرة منها ما تناوله
الإعلام الالكتروني والمطبوع في أكثر من
مناسبة، مثل تلوث مياه الصالحة للشرب في
السلمية بمياه الصرف الصحي والذي نتج عنه
إصابة /500/ مواطن باليرقان الوبائي،
وتلوث المياه في دير خبية بالكسوة مما سبب
بإصابة المواطنين في تلك المنطقة بالتهاب
الأمعاء الشديد مع الإسهال والأقياء،
وتحليل آخر عند إعطاء نتيجة التحاليل
للمادة الأولية لنوع من أدوية الأطفال على
أنها مقبولة جرثومياً دون إجراء أي تحليل
لها في المخابر، بالإضافة إلى قضية
استيراد أجهزة رياضية ملوثة بالإشعاعات
النووية التي دخلت سورية نتيجة لخطأ
مخبري، والتي كان من المؤكد أنه لكان
لمفعولها وأثارها نتائج وخيمة على كل
رياضي بسورية، فهل أجهزتنا المخبرية
بخير؟.
بالشمع الأحمر.. ثم..
قدمت الوزارة عرضاً خاصاً بالمناقصة
للمشروع الوطني لفحوصات ما قبل الزواج
بالتعاون مع نقابة أطباء سورية، وذلك لحصر
الأمراض الوراثية بغية التقليل منها
وحصرها في أعداد قليلة، والقضاء عليها
مستقبلاً، لكن الذي حصل أن مخبرين قائمين
في حمص ودرعا تابعين عملياً للقطاع الخاص،
وهما بالأصل مخالفان للمرسوم التشريعي
ظفراً بالمناقصة، رغم أنهما كانا مخالفين
لدفتر الشروط، وبالتالي فإن العمل بهما
يتم كمن يمارس المهنة دون رخصة، وقد صدر
قرار سابق بإيقافهما عن العمل، لكن
المشكلة أن هناك دائماً، وكلاء جاهزين تحت
الطلب يستغلون الفرصة للظفر بأية مناقصة
حتى ولو على حساب صحة المواطن، لكن السؤال
المهم هو: إلى الآن كم هو عدد المواطنين
الذين خضعوا لهذه الاختبارات المتعلقة
بدراسة الخضابات الشاذة؟ (التلاسيميا وفقر
الدم المنجلي) يبدو أن الوحيد الذي يمتلك
الجواب، وزارة الصحة والقائمين على تلك
المخابر فقط!.
أدوية بقيمة/615/مليون في مطبخ
تم كشف ما لم يكن بالحسبان في مشفى ابن
النفيس، حيث وضعت أدوية « الأنتي فيرون»
في براد مطبخ المشفى الخاص بالخضار
والفواكه!، وعلى الرغم من خطورة ذلك مع
العلم أن مجمع ابن النفيس الطبي لديه
مستودعات نظامية للأدوية تحتوي برادات
كبيرة جداً مخصصة لحفظ الأدوية، ولا يحتاج
جلبها من البرادات إلى المشفى إلا دقائق
قليلة أكثر من جلبها من المطبخ، ولكن
العلة في الموضوع أن وجود أي أدوية توضع
في برادات مستودع الأدوية بحاجة لإدخال
وإخراج نظاميين، أما في المطبخ فقد وضعوا
الأدوية دون إدخال وإخراج نظاميين، ألا
يحتاج هذا للتفسير؟ مع العلم أنهم حولوا
براداً كبيراً ستانلس من المطبخ إلى
الصيدلية وهو يسع لكميات كبيرة، وأما عن
موضوع أشواط العلاج فلماذا لا يحتفظون به
كل شهر بشهره أو كل شهرين، ويسحبون ما
يريدون من مستودع الأدوية بشكل نظامي، مع
التذكير أن البرادات في مستودع الأدوية
تتمتع بجميع شروط الحفظ والسلامة للأدوية،
وأما في المطبخ فلا تتمتع الأدوية بأي
شروط للحفظ والأمان على الرغم من ثمنها
الباهظ، فبراد المطبخ مفتوح أغلب أوقات
الدوام من إدخال وإخراج صناديق الخضار
وصناديق الفواكه وبراميل الألبان، وتنك
الجبن والزيتون وأكياس البصل وصناديق
البيض، وما تعطيه تلك المواد من رطوبة
عالية تتنافى مع شروط الحفظ الجيد.
أما من ناحية الأمان فقد وضعت الأدوية في
البراد المفتوح، ويدخل من يدخل عليه ويخرج
من يخرج منه فرادى وجماعات، وحتى أن عامل
المتعهد ليس بموظف ومع ذلك يدخل وحده دون
مراقبة، والأدوية أمامه، مع التنويه إلى
أن بعض الكراتين كانت مفتوحة والإبر ظاهرة
بشكل واضح، ولا ندري إذا تم أخذ بعضها أم
لا، فلو كانت هذه الإبر بمثابة ملك شخصي
لأحدهم، فهل كان يلقي بها هكذا أمام أيدي
الجميع؟ والذي لا يتوانى أحدهم عن سرقة
حصص المرضى من الطعام فكيف إذا كان سعر
الإبرة خمس عشرة ألف ليرة مع علمنا بأن
تلك الإبر ليست داخلة على قيود أمين
المستودع، الذي طالب عدة مرات أن يأخذوا
أدويتهم من مطبخه بعد أن علم عن سعر
الإبرة الواحدة، لكنهم أقنعوه وقالوا له
ليس هناك شيء في قيوده، ولم يستلم شيئاً،
ولا تقع عليه أية مسؤوليات.
والأنكى من هذا أنه وبعد حادثة ضبط
الأدوية تمت بعض الإجراءات غير النظامية،
منها استدعاء أمين المستودع وإرغامه على
كتابة وصول استلام بتاريخ قديم، وهذا ما
صرح به حيث تم استدعاؤه إلى غرفة المساعدة
الفنية، وبحضورها وحضور رئيسة التمريض
وحضور رئيس المشفى، وأجبر بالترغيب
والترهيب على كتابة وصولات مزورة بتاريخ
قديم خوفاً منهم.
وأيضاً قاموا بتشكيل لجنة على أساس أنها
لجنة قديمة لإخراج وإدخال الأدوية وهي
مؤلفة من أناس لم يكونوا قد دخلوا المطبخ
سابقاً في حياتهم، وكل ذلك كي يغطوا
ويوهموا بأعمالهم أن باطلهم حق ولو بتزوير
الحقائق، فلماذا هذا التزوير؟ ولماذا تمت
عمليات النقل في إحدى سيارات نقل
الموظفين؟ ولماذا لم يستدعوا شاحنة من
المستودعات لكي تأخذهم أمام جميع الأطباء
والمخبريين؟ وما هو عدد الأبر التي تم
تخريجها من المطبخ؟ وما هو العدد الحقيقي
الذي دخل إلى مستودع الأدوية؟ ومن هي
الرؤوس التي ساعدتهم في هذا الأمر ومن
يدعمهم؟.
إهانة ونقل تعسفي للكفاءات
الخبرات الفنية في الوزارة تم نسفها دون
أية أسباب، فإذا كانت الوزارة ترى أخطاء
ارتكبوها، فلماذا لا تحاسبهم على أخطائهم؟
أما أن تكون النيات بعكس الحقيقة فإن أقل
ما يمكن قوله أن الوزارة بتجميدها ونقلها
للعديد من الكفاءات ترتكب أخطاء بحق
الوزارة والدولة والمواطن، فهل نقل
الأطباء وبعض المهندسين من الإدارة
المركزية إلى المشافي العامة أو المخابر
السريرية صحيحة؟ وهل المنقولون الجدد إلى
تلك الإدارات بخبرات زملائهم نفسها؟! في
كل دول العالم عندما يخطئ أحد المستخدمين
يقدم الوزير المسؤول استقالته، بينما في
سورية العكس تماماً، وهنا نسأل عن أسباب
ظهور قاعدة عقود الاستثناءات من أجل فتح
المخابر والصيدليات؟ لأن هذه المهمة ليست
من صلاحيات الوزير حسب القانون 1970، خاصة
وأن هذه القاعدة من الاستثناءات أصبحت
يومية، وهل اللجان التي تعادل الشهادات
التي تم إيقافها سابقاً جديرة بعملها هذا؟
أحد كبار الموظفين في الوزارة رفض الكشف
عن اسمه قال: «إن ما تم تخريبه في الوزارة
لا يمكن إصلاحه بأقل من خمس سنوات أو
أكثر، فالوزارة اللامسؤولة التي اتخذت
القرارات وأصدرتها دمرت كل الكفاءات
الفنية، ويتطلب التصحيح خطة خمسية لإصلاح
ما أفسدت الإدارة الحالية التي تعمل
بمزاجية خاصة». وأكد المصدر أن ما يلفت
النظر في كل هذه الأعمال السر الذي لم
يفهم طيلة أكثر من عشرين سنة، حيث تعاقب
ثلاثة وزراء على وزارة الصحة عبر مدير
مكتب واحد هو نفسه الذي أدار إدارة مكاتب
الوزراء الثلاثة «الخاصة»، بالتوازي مع كل
المخالفات وحالات الفساد والأخطاء التي
ارتكبت في عهد الجميع. وقد وصل الأمر في
آخره إلى التمديد له في العمل على الرغم
من إحالته إلى التقاعد لانتهاء فترة
الخدمة لديه، فأي يد وعقل سحريين يملكهما
هذا الشخص حتى يبقى على رأس عمله في عهد
ثلاثة وزراء، بينما يتم نقل مهندسين بسبب
رفضهما لمشروع هو بالأصل مخالف لقرار مجلس
الإدارة ولبلاغ مجلس الوزراء، ورغم عدم
وجود ميزانية لهذا المشروع، حيث تم
الإعلان عن مشروعي مهاجع الرجال الحديث
والمبنى الإحترازي بكلفة تقديرية
حوالي/مئتين وتسعين/ مليون ليرة، وقد تم
هذا الإعلان بمعرفة وعلم مدير صحة ريف
دمشق، علماً أن المشروع قد تم التعاقد
عليه في العام 2007 وقد رفض الوزير السابق
التصديق عليه لأسباب تتعلق بارتفاع
الأسعار، والملفت للنظر أنه يتم استبعاد
هؤلاء المهندسين كلما كان هناك إعلان عن
مشاريع، والسؤال المطروح هنا: إلى متى
سيتم التلاعب بمصير وعمل موظفي الفئة
الأولى؟ ونقلهم تحت شعار مقتضيات المصلحة
العامة وعدم الحاجة بينما البديل جاهز،
وهو التمديد لعامل من الفئة الثانية؟
والأنكى أنه بلغ سن التقاعد في 10/1/2010
وعلى الرغم من أن هذا البديل لم يقم بأي
عمل منذ سنتين ورغم وجود العديد من
القرارات والعقوبات بحقه وأهمها قرار
الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش بكتابها
رقم11/664/9/4ب تاريخ 12/4/1993 وبصرفه من
الخدمة والسبب الرئيسي في ذلك المصالح
الشخصية.. وإلى متى ستدار مؤسساتنا بعقلية
الأفراد وليس بعقلية المؤسسات؟ وهل
التكليف غير المحدد للمدة شأن إداري
قانوني؟.
أخيراً لابد من التأكيد أننا في التحقيق
هذا وللمرة الثانية، مازلنا نترفع عن
الحديث عن القضايا الشخصية التي يندى لها
الجبين، لأن ما يهمنا بالنهاية العنب وليس
قتل الناطور..
ali@kassioun.org |