استكشفت دمشق في الأسابيع الأخيرة التي
تلت القمّة الثنائية بين العاهل السعودي
الملك عبد الله والرئيس السوري بشّار
الأسد، والقمّة الثلاثية التي جمعتهما
بالرئيس اللبناني ميشال سليمان، آفاق
الموقف الأوروبي من المحكمة الدولية
والقرار الظني في اغتيال الرئيس رفيق
الحريري، ومدى تأثير اتهامه أعضاءً في حزب
الله بالاغتيال على الاستقرار في لبنان،
من خلال موفدين وأصدقاء وثيقي الصلة بها
وبدول أوروبية بارزة.
في تقويمها حصيلة جولة الاستكشاف هذه،
تجمعت لدى دمشق المعطيات الآتية:
1 ـــــ تغلب على فرنسا وجهتا نظر
متناقضتان بين أعضاء فريق العمل المحيط
بالرئيس نيكولا ساركوزي. أولى، يلتقي
عليها الأمين العام للرئاسة كلود غيّان
والمستشار الدبلوماسي للرئيس جان دافيد
ليفيت والموفد الفرنسي الخاص، السفير جان
ـــــ كلود كوسران والاستخبارات الفرنسية،
ويتوجّس هؤلاء من نتائج قرار ظني يتهم حزب
الله باغتيال الحريري، ويلاحظون أنه ليس
من المصلحة تأييد استخدام المحكمة الدولية
في سياق يستهدف سوريا وحزب الله نظراً إلى
تعارض هذا الاتجاه مع المصالح الفرنسية في
لبنان وسوريا، وخصوصاً إذا بدا القرار
الظني أحد المظاهر المباشرة لتسييس
المحكمة الدولية. ويقول المنادون بهذا
الرأي إن مصلحة فرنسا تكمن في استمرار
تعاونها مع سوريا، وقد نجحتا بفعل هذا
التعاون في تحقيق الاستقرار في لبنان
وإعادة بناء مؤسساته الدستورية. تالياً،
تبدو العلاقة الإيجابية مع سوريا مصلحة
فرنسية رئيسية ينبغي الحؤول دون التفريط
بها، من خلال العمل على تفادي تسييس
المحكمة الدولية.
ويقرن هؤلاء رأيهم هذا بحجة مفادها أن
الأسد شجّع باريس على الاضطلاع بدور أساسي
في تسوية أزمة المنطقة، وخصوصاً في مسار
مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل عبر تركيا،
الشريك الرئيسي للبلدين في قيادة هذا
النوع من التفاوض. وهم يفضّلون ترك
المحكمة للاضطلاع بدورها ضمن معايير
العدالة الدولية وتفادي ممارسة ضغوط عليها
تزعزع الاستقرار في لبنان، ويشدّدون على
ضرورة الرهان على العلاقة البناءة مع
الرئيس السوري بالذات.
أما وجهة النظر الثانية التي يقودها وزير
الخارجية برنار كوشنير، وتحظى بتأييد
مسؤولين في الكي دورسيه وآخرين في وزارة
الدفاع، فتقلل من وطأة قرار ظني يتهم حزب
الله باغتيال الحريري، وتقول بأنه لا موجب
للمغالاة في القلق من القرار الظني
والإيحاء بتقويضه الاستقرار الداخلي في
هذا البلد، وتعلق أهمية على المصالح
الحيوية مع الولايات المتحدة صاحبة الكلمة
المؤثرة في المحكمة الدولية. يقول هؤلاء
أيضاً إن المشكلة الأم تكمن في الصراع مع
إيران أكثر منه في المحكمة الدولية أو
القرار الظني، وأن تعذّر توجيه ضربة
عسكرية إلى إيران بسبب برنامجها النووي لا
يحول دون العمل على تحريك ضربات صغيرة
موضعية تستهدف حلفاء إيران في المنطقة
كحزب الله بغية إضعافهم.
ولاحظ تقويم دمشق للموقف الفرنسي من
المحكمة الدولية والقرار الظني، أن
ساركوزي لم يحسم تماماً الخيار الأفضل
حيال إحدى وجهتي النظر هاتين، وإن ساد
الاعتقاد بأنه أقرب إلى فريق عمله
المتمرّس في الحوار مع سوريا، كغيّان
وليفيت وكوسران. فهو يدعم المخاوف من
تنامي القدرة النووية لإيران، ويأخذ في
الاعتبار مصالح إسرائيل وأمنها في المنطقة،
وتعاون باريس مع واشنطن، لكنه متمسّك
بالعلاقة الإيجابية التي تجمعه بالرئيس
السوري، وينظر إلى دوره في لبنان والمنطقة
على أنه عامل مهم ورئيسي لاستقرارهما.
والواضح لدى ساركوزي أن غيّان وليفيت نجحا
في بناء علاقات فرنسية ـــــ سورية بالغة
الأهمية بعد إخفاق كوشنير في هذا المسعى.
ورغم أن الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية
الفرنسي لدمشق في 23 أيار الماضي واجتماعه
بالأسد، حاولت تخفيف سوء التفاهم بين
كوشنير والقيادة السورية، تصرّفت دمشق
باستمرار على أنها تثق بحوارها مع غيّان
وليفيت أكثر منها مع كوشنير، وتفضّل
عبرهما توجيه الرسائل إلى الرئيس الفرنسي.
واقع الأمر، أنّ كلام ساركوزي أمام
المؤتمر الـ18 للسفراء الفرنسيين قبل
يومين، أتى أكثر تعبيراً عن ميله إلى
الخيار الأول، بتشديده على الاستقرار في
لبنان وضرورة تجنيبه دورة جديدة من العنف،
وتجاهل الرئيس الفرنسي ذكر المحكمة
الدولية التي غالباً ما رافقت معظم
المواقف التي كان يدلي بها عن لبنان ودعم
باريس له، أضف تشديده على صداقة فرنسا
للبنانيين جميعاً، في إشارة ضمنية ذات
مغزى في توقيتها، إلى عدم استثنائها أحداً
من الحوار والتعاون معها، وخصوصاً حزب
الله والرئيس ميشال عون.
في السياق نفسه، يقع تعيين كوسران موفداً
رئاسياً خاصاً للمسار السوري ـــــ
الإسرائيلي، وكان بمثابة ردّ اعتبار إلى
الرجل بعد احتجاب طويل عن ملف العلاقات
الفرنسية ـــــ اللبنانية، والفرنسية
ـــــ السورية، بعدما كان قد قاد عام
2007، قبل الفراغ الرئاسي في لبنان وبعده،
حواراً مع سوريا وإيران، وزار لبنان
مراراً، سعياً إلى بناء علاقات جديدة مع
دمشق في مطلع عهد ساركوزي حينذاك.
2 ـــــ لمست دمشق ثنائية مماثلة في
وجهة النظر الرسمية أيضاً لدى كل من
ألمانيا وبلجيكا، بعدما استكشفت مواقفهما
بين محذّر من عواقب قرار ظني يقوّض
الاستقرار في لبنان، وبين مطمئن إلى سير
عمل المحكمة الدولية، وكذلك إلى القرار
الظني. إلا أن الموقفين الإيطالي
والإسباني بدوا مختلفين: التصقت روما أكثر
بوجهة النظر الأميركية في تقديم دعم غير
مشروط للمحكمة الدولية مهما يكن مضمون
القرار الظني، وأظهرت مدريد في المقابل
تفهّماً للقلق والهواجس التي ينطوي عليها
القرار الظني.
3 ـــــ تنظر دمشق إلى أن المشكلة لا تكمن
في القرار الظني فحسب، بل في المحكمة
الدولية أيضاً، إذ تعتقد بأنها تستخدم
كإحدى أدوات الضغط والصراع في مرحلة
انتقالية بالغة الصعوبة تعانيها أزمات
المنطقة، الموزّعة على قوس العراق ولبنان
وفلسطين. وإذ تبدو كل أزمة قائمة في ذاتها،
بيد أنها تؤلف رزمة واحدة في ضوء
التأثيرات السلبية المتبادلة التي يواجهها
استقرار المنطقة، وصراع النفوذ على النقاط
الساخنة الثلاث هذه.
ويعبّر ما كان قد سمعه رئيس الحزب
التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط في
باريس قبل أسبوعين، وما سمعته الرياض قبل
ذلك من المسؤولين الفرنسيين، عن أهمية دور
المحكمة الدولية في التجاذب الإقليمي. قال
الفرنسيون، وتحديداً نيكولا غاليه مساعد
جان دافيد ليفيت المستشار الدبلوماسي
لساركوزي، إنه لا يسع باريس الاضطلاع بأي
دور حيال المحكمة الدولية ولا التدخّل
فيها، وهي عاجزة عن التأثير عليها.
قال الكلام نفسه لجنبلاط، بمغزى مختلف،
مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون
الشرق الأدنى السفير جيفري فلتمان. إلا أن
الزعيم الدرزي ـــــ بعدما نقل إلى غاليه
وفلتمان بتكليف رسمي من الأسد خطورة المضي
في قرار ظني يتهم حزب الله باغتيال
الحريري واحتمال زعزعة الاستقرار في لبنان
ـــــ أبلغ إليهما أنه يعرف، كما هما
يعرفان، حجم الدور الذي اضطلعت به
الولايات المتحدة وفرنسا من أجل إصدار
القرار 1559 لإرغام سوريا على إجلاء جيشها
من لبنان وطلب تجريد حزب الله من سلاحه،
وكذلك يعرف ـــــ ويعرفان ـــــ الدور
المباشر والحاسم لواشنطن وباريس لإنشاء
المحكمة الدولية، على نحو لا يجعله يصدّق
أنهما غير قادرين على التدخّل لجبه مشكلة
يحّذر جنبلاط كما الرئيس السوري، كما أكثر
من فريق لبناني، من خطورة انهيار
الاستقرار في لبنان تحت وطأة القرار الظني
وتسييس المحكمة الدولية على غرار ما هو
جارٍ.