بعد
انقضاء الاسبوع الثالث على اعلان الامين
العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله
حربه الشرسة المتدرجة على القرار الظني
للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان اعتقاداً
منه انه انما أعدّ ليحاصر الحزب بتهمة
الضلوع في جريمة اغتيال الرئيس رفيق
الحريري قبل نحو خمسة اعوام، ثمة اسئلة
مفصلية تحتشد في الاوساط السياسية
المعنية، وتنهض على الخطوط العريضة
الآتية:
هل افضى هذا الدخول الصاخب للسيد نصرالله
على المشهد السياسي المحلي والاقليمي الى
تغيّر نوعي؟ وهل استطاع ايصال الرسائل
التي انطوت عليها اطلالته المعلنة وغير
المعلنة الى من يعنيهم الامر؟
وأبعد من ذلك، هل بدأ الاطراف المعنيون
تلقف الهجمات، والشروع في اعادة حساباتهم
ومواقفهم؟ أم ان كل هذا الفعل العالي
النبرة لم يفتح في الواقع السياسي المرسوم
أي أفق جديد، وتالياً فان ما كتب قد كتب،
ويصعب محوه ويستحيل تغييره؟
تلك الاسئلة التي يندرج تحتها وتتناسل
منها عشرات الاسئلة الفرعية، تبحث بإلحاح
عن اجابات شافية ووافية لها يمكن من
خلالها رسم معالم المشهد السياسي اللبناني
في الفترة الراهنة وقابل الايام، ولا سيما
ان موضوع المحكمة والقرار الظني الذي يمكن
ان يصدر عنها قد أسرا الوضع اللبناني
برمته.
والواضح ان لدى الفريقين المعنيين
بالمسألة، اي من يرسل الرسائل النارية ومن
يتلقاها، وجهتي نظر متباينتين، اذ لم يعد
خافيا ان في الفريق الثاني، والمقصود به
تيار "المستقبل" من يتعاطى مع الهجمات
بأنفاس مضبوطة واعصاب مشدودة قدر الامكان،
انطلاقا من جملة حسابات بعضها مؤجل وبعضها
الآخر معجل. وليس جديدا القول ان في عداد
هذا الفريق من يجد في "هجمات" السيد
نصرالله، وان كانت "نارية"، علامات ارباك
واشارات "ضعف" ووهن.
ويمضي هؤلاء في حساباتهم الضمنية الى أعمق
من ذلك، في تقديمهم الدلائل والبراهين على
ان الفرص امام حركة السيد نصرالله وهامش
المناورات لحزبه قد ضاقت الى ابعد الحدود،
اذ يقولون ما معناه إن الرجل لا يمكنه ان
يمضي قدما في حملاته الاستباقية للتملص من
موجبات القرار الظني الذي يحاصر بعض عناصر
حزبه بتهمة الضلوع في الجريمة، لا سيما ان
"جبهة" الحرب على اسرائيل قد سدت منافذها
بفعل القرار 1701 ووجود ما لا يقل عن 13
الف جندي اممي في منطقة جنوب نهر الليطاني.
اما على المستوى الداخلي، فبالنسبة الى
هؤلاء لم يعد المجال مفتوحا امامه (نصرالله)
لاقامة اعتصامات وتنظيم حالات اعتراض تخيف
الآخرين كما كان الوضع قائما قبل السابع
من ايار عام 2008.
اكثر من ذلك، لا يخفي هؤلاء وهم يقدمون
تصوراتهم للمرحلة انه بعد التفاهم الذي
نسج بين رئيس الوزراء سعد الحريري والرئيس
السوري بشار الاسد، حاجة الاخير الى الاول
لكي يكتمل تفاهمه مع القيادة السعودية
ويصير هذا التفاهم محققاً وناجزاً على نحو
يفضي الى اللاعودة الى زمن عزلة سوريا
ابان كانت هي المحاصرة الوحيدة بتهمة
الضلوع في اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
ولم يعد خافيا ايضا ان هذا الفريق نفسه
يتصرف على اساس ان سوريا التي غطت في
السابق كل سلوكيات "حزب الله" وادائه في
الاعوام الخمسة المنطوية، لم يعد في
مقدورها وليس من مصلحتها ان تعيد تكرار
التجربة اياها، وهذا يعني ان حقل حسابات
سوريا الدولة لم يعد متطابقا مع حسابات
بيدر "حزب الله".
ولا ريب ان ثمة من يقرأ في "صمت" رئيس
مجلس النواب نبيه بري وسكوت النواب
والقيادات المحسوبة عليه في الآونة
الاخيرة وعدم ابداء التضامن مع الحزب وهو
يواجه المحكمة، موقفا لافتا ينطوي على
مغاز ويبنى عليه ويؤخذ بالحسبان في قابل
الايام.
في مقابل هذا الغيض من الحسابات لدى تيار
"المستقبل" والتي توحي كأن "حزب الله" بكل
قضّه وقضيضه بات هذه المرة في قبضة الفخ
الذي اعد له، فان القريبين من دوائر
القرار في الحزب يستخفون بكل هذه القراءة
ويصفونها بأنها "حسابات مراهقين"، ويؤكدون
أن اطلالات سيد الحزب المحسوبة والممنهجة
بدقة قد أدت حتى الآن غرضها المضمر
بالكامل، لجهة انها غيرت في كل "الاجندة"
الداخلية بل اعادت ترتيب السياسة الداخلية
بمجملها على وقع المواقف التي اطلقها من
خلال هذه الاطلالات والتي نجحت في:
1 – القبض على المبادرة وزمام اللعبة بيد
فولاذية.
2 - صارت اللعبة عموماً في ملعب الآخرين.
3 – صار الحزب في موقع الهجوم فيما
الآخرون في موقع الدفاع المربك.
4 – وهو يخوض "المباراة"، فرض نصرالله على
الآخر حال ترقب وانتظار المزيد، ولا سيما
انه منهج عملية الاخراج بما تختزنه جعبته
من معطيات ومعلومات ووقائع، واطلاقها بشكل
جرعات تجعل المعنيين يعيشون حال ترقب
وتوجس.
5 – وما لا يخفي الحزب قوله ان السيد
نصرالله اختار عن سابق تصور "لهجماته"
واطلالاته المتكررة لحظة اقليمية شديدة
الحيوية والاهمية، فهو كان على علم مسبق
بالزيارات التي يعتزم عدد من القادة العرب
القيام بها الى بيروت ودمشق، ويعلم ايضا
ان الحريري على موعد للقاء الرئيس السوري
بشار الاسد.
وبالطبع فان دوائر القرار والقراءة في
الحزب تعتقد بأن ثمة زيارات كانت مقررة
سلفاً، في حين ان زيارات اخرى تقررت
لاحقاً في ضوء وقع مضامين خطابات السيد
نصرالله ورسائله المرسلة في اكثر من
اتجاه، وفي هذا بالنسبة الى الدوائر عينها
قرينة على مدى التأثير الذي خلفه كلام
نصرالله ودليل على عدم صحة ما ذهب اليه
البعض من ان السيد نصرالله انما يتحرك في
الفراغ او ان حراكه بلا جدوى ودوي.
وبالنسبة الى الحزب، لا يستعجل السيد
نصرالله حرق المراحل واستنفاد كل ما ملكته
أيمانه من اسلحة ومعطيات ومعلومات، فهو
يتقن ادارة اطلاقها عبر اطلالات مقننة، ان
لجهة المضمون او لجهة التوقيت، وبالتالي
بعد كل اطلالة يكون ثمة ترقب ورصد دقيق
لردود الفعل، ليبنى على المعطيات المستجدة
منها ما يمكن اطلاقه في الاطلالة التالية،
على نحو تتكامل فيه الامور والرسائل
واستدراج ردود الفعل من الآن وحتى نهاية
آب المقبل، على ان يتم في مطلع ايلول رسم
مشهد عام لما أعد وما سيعد للمرحلة الفصل.
وعليه، فان السيد نصرالله الذي أرجأ
اطلالته الرابعة الى ما بعد الزيارات
المرتقبة لبعض القادة العرب لبيروت، هي
بالنسبة الى الحزب أمر ليس بالعابر، فهي
محطات ترقب ورصد دقيقين من جانبه ولا سيما
ان الحزب بدأ يستشعر ان الآخرين شرعوا في
الرد على رسائله العنيفة اليهم عبر "عروض"
سياسية بعثوا بها اليه بالواسطة. وهو وان
كان رفضها مبدئياً رفضاً قاطعاً كونها
تعتمد فكرة تأجيل اصدار القرار الظني
الموعود، الا انه يستنتج ان الامور قد
دخلت مرحلة "البيع والشراء"، او على الاقل
ان الجهود التي بذلها بدأت تفعل فعلها.
والامر الاساسي الذي لا تريد الدوائر
اياها التوقف عنده او اعطاءه اهمية، هو
مسألة ما يشاع عن ان سوريا باتت تمثل
"الجزرة" التي تقدم الى الحزب في موازاة
"عصا" القرار الظني الموعود، "لأن من يبني
مثل هذه الرؤية ويتكىء على مثل هذا
التحليل، هو سطحي في السياسة الى حد
السذاجة". |