ليس الرئيس المخلوع مقصودا بالغباء
المزمن لسببين اثنين ، أولهما أنه دون
مستوى الغباء ، فلو أن سمكة ( و هي تحتل
أدنى مرتبة في سلم الفقاريات ذكاءا ) درست
اللغة الصينية لمدة خمسين سنة لصارت أفصح
من كونفوشيوس ، بينما استغرق المخلوع 75
سنة من عمره و أكثر من نصف قرن في العمل
العام ، نصفها تقريبا في الرئاسة المطلقة
قبل أن يعلن على الملأ أنه فهم ..فهم ...فهم
.. بيد أن الدرس انتهى ، والسبب الثاني
أنه لم يعد قادرا على الإفادة من أي كلام
أو دروس أو عبر ، كما أن فهمه لم يعد ينفع
بعد سقوطه في الامتحان النهائي ، فهو يصبح
و يمسي حبيس ملجأ لا يزيد عن سكن مواطن
عادي ، و أغلب الظن أنه سيكمل ما تبقى له
من عمر في حسرة داخلية و ندم قاتل على ما
قدم ، و قد كان بإمكانه أن يكمل عمره رمزا
للعدل والتحرير و النهضة و النمو في بلده
بدلا مما آل إليه رمزا للفساد والطغيان و
الاستبداد و الجبن في بلده و سائر دول
العالم ، فلا هو قادر على نسيان ماضيه و
لا الندم يعيد الزمن .
قبل عشرين عاما كان يسكن في حينا الرئيس
الراحل عيدي أمين ، ولعله صاحب براءة
اختراع بتسمية نفسه ( رئيس مدى الحياة ) ،
و كان يتردد أحيانا إلى المسجد الصغير في
الحي ، و طالما تأملت منظره و هو يترجل من
سيارة عادية حافي القدمين ، بثوب أبيض (في
الأصل)معفر بالأوساخ ، يثير شفقة الرائي و
يتساءل إن كان هذا الرجل رأى عزا عاديا في
يوم من الأيام ، و قد حاولت مرة أن أسأله
عن شعوره الحالي مقارنة بما كان عليه في
السابق ، غير أن اللغة حالت دون ذلك ، فهو
لم يكن يتكلم العربية ولا الإنكليزية ، أو
أنه فضل عدم الفهم لصعوبة الإجابة .
أكثر الحانقين على الرئيس المخلوع اليوم
أو في الغد القريب زوجته و أولاده و
أنصاره و أصدقاؤه و عائلاتهم ، لأنهم نسوا
أو سينسون قريبا أيام الثراء الفاحش ، و
سيلصقون به أسباب الشقاء الذي سيصلون إليه
و سيتناسون أنهم كانوا أهم أسباب سقوطه
لما مارسوه من فساد واستغلال للسلطة ، وهم
الذين زينوا له أنه ربهم الأعلى ، أما
قالت اعتماد يوما لابن عباد بعد أن زال
ملكه ما رأيت منك يوما خيرا قط؟؟؟ فأنكرت
يوم الطين المصنوع من والمسك الزعفران
؟؟؟؟؟؟ .
الكلام للديكتاتور الآخر ... الغبي الذي
يظن أن ثورة الياسمين كانت بسبب الخبز
والمواد الغذائبة ، فهرول ليخفض بعض
الأسعار ، أو زاد بعض المرتبات الشهرية
لموظفي الحكومة أو زاد دعم الحكومة لبعض
السلع الضرورية للحياة ، ويتعامى أو
يتناسى أن البوعزيزي لم يحرق نفسه بسبب
الجوع ، بل فعل ذلك إثر صفعة على وجهه من
شرطية رأى فيها الديكتاتور الذي لا ترد
صفعاته ، (وما الشرطية إلا قطرة من رذاذه)
، فهان عليه الموت بعد أن هدرت كرامته .
الديكتاتور الآخر ... الغبي هو الذي يتصور
أن الشرطية التي صفعت وجه البوعزيزي هي
المجرمة التي تستحق العقاب ، والحقيقة أن
تلك الشرطية المسكينة هي الأخرى إحدى
ضحاياه ، وقد صنعها على عينه أداة من
أدوات الإجرام المبرمج ، فالديكتاتور
الأكبر يبرمج كل زبانيته على وجهين اثنين
بحسب التدرج الهرمي لهم ، إذا نظر أحدهم
إلى أعلى مسخ عبدا ذليلا على الفور ، وإن
نظر إلى أدنى انتفش كسيده .
الديكتاتور الآخر ... الغبي الذي يعيد
سيرة أشعب في تصديق فريته لما أرشد الناس
إلى مكان وليمة وهمية فما لبث أن سار
خلفهم ،فبعد أن أوهم الإعلام الخارجي بحب
شعبه له كناتج لتسعاته الأربع فبركها على
طريقته ، صدق ذلك كما صدقها المخلوع من
قبل .
الديكتاتور الآخر ... الغبي الذي يظن نفسه
بمنأى عن تكرار ماحصل مع المخلوع ، و كأن
شعبه خلق مفصلا على مقاسه كتفصيل الدستور
، أو أنه جبل خصيصا له من طين المريخ ،
كما كان المخلوع يظن أن شعبه من زحل .
بداية الرقص حنجلة .... والعازفون بدأو
يأخذون كراسيهم ... والمايسترو شعب يطلب
العدل والحرية .....ومسرح التحرير يهيء
نفسه لاستقبال الخالعين .... والغبي يستمر
في التجاهل و التهوين والاستخفاف و نشر
مئات الآلاف من رجال الأمن المركزي بدلا
من سرعة الاستجابة للتغيير والتصحيح
والتصويب .
الملفت للنظر أن ترتيب الخضراء في تقرير
منظمة الشفافية العالمية هو 65 بينما تحتل
أم الدنيا المرتبة 111 ، والقطر الشمالي
127 أي أن الفساد فيه يعادل ضعف الفساد في
الخضراء .
لم تعرف البشرية فيما مضى من التاريخ
المعروف ( حسب علمي ) ديكتاتورا واحدا لم
يكن مصابا بالغباء المزمن ....فهل نرى في
حاضرنا غبيا يشفى قبل نهاية الدرس ؟؟؟
فيكون مفصلا نوعيا في مسيرة التاريخ ؟؟ أم
أن التاريخ ماض باصرار على مساره السابق
... لا يقبل تغييرا و لا تبديلا؟؟؟
بلال داود – كاتب سوري |