ترفرف أشباح حرب أهلية على مدينة حمص،
ثالث أكبر المدن السورية، حيث يطلق محتجون
مسلحون على أنفسهم لقب «ثوار»، وتحدث كل
ساعات قليلة معارك بالأسلحة النارية،
وتنفذ القوات الأمنية وخصوم عمليات
اغتيال، وبلغ سعر البندقية 2000 دولار،
وبدأت تغمر المدينة من الخارج، وذلك بحسب
ما أشار إليه سكان بالمدينة.
ومنذ بدء الانتفاضة في مارس (آذار)
الماضي، ظهرت مدينة حمص كأحد أهم المدن
السورية المتنازع عليها، ويأتي شبابها من
بين أكثر الشباب تنظيما وعنادا في
مواقفهم، ولكن في وسط الطيف السياسي،
يتحدث سكان محليون عن تحول حاسم خلال
الأسابيع الماضية، حيث تفسح انتفاضة سلمية
بدرجة كبيرة الطريق أمام صراع طاحن جعل
مدينة حمص عنيفة ومخيفة.
وينبه محللون إلى أن النزاع داخل حمص لا
يزال خاصا بهذه المدينة، ويعارض الكثيرون
في المعارضة العنف، لأنهم يخشون من أن ذلك
سيمثل ذريعة للحكومة كي تعمد إلى إجراءات
قمعية وحشية.
ولكن على ضوء عمليات القتل المستهدفة،
ونقاط التفتيش الأمنية المنافسة، والمشاعر
الطائفية المحتدمة، تقدم المدينة مشهدا
كئيبا قد يخبر عن مستقبل الانتفاضة
السورية، حيث تستعد الحكومة والمعارضة على
السواء لصراع طويل الأمد يختبر استمرارية
أربعة عقود من الديكتاتورية.
وقال طالب بكلية الهندسة، يبلغ من العمر
21 عاما، شريطة عدم ذكر اسمه خشية
الانتقام: «لقد انتهينا من مرحلة
الاحتجاج، وندخل الآن إلى مرحلة أكثر
أهمية». وتعد مدينة حمص نموذجا مصغرا
لسوريا بالكامل، حيث توجد بها أغلبية من
المسلمين السنة وأقليات مسيحية ومن
الطائفة العلوية، وهي الطائفة التي يعتمد
عليها الرئيس بشار الأسد في الكثير من
قياداته.
وقد قوضت ستة أشهر من الاحتجاجات
والإجراءات القمعية العلاقات بين هذه
المجتمعات، ووفرت الظروف لنزاع حضري،
وتقوم معارضة مسلحة بالدخول في معارك مع
القوات الأمنية بالمناطق الأكثر اضطرابا.
وقد حاول متمردون حماية المتظاهرين
السلميين الذين تسعى الحكومة لإلقاء القبض
عليهم، وقد باتت التوترات كئيبة لدرجة أن
أفراد إحدى الطوائف يترددون في السفر إلى
أحياء يعيش فيها أفراد طوائف أخرى، وداخل
بعض أجزاء المدينة يمشي الرجال حاملين
الأسلحة بشكل صريح.
وربما يظهر أحد أكثر صور الصراع درامية في
سلسلة من عمليات الاغتيال، خلال الأسبوع
الماضي، خلفت نحو اثني عشر قتيلا، بينهم
أساتذة جامعيون وأطباء ومخبرون، في نوبة
مفاجئة من أعمال العنف تذكر بأعمال عنف
طائفي لا تزال تحدث في العراق. وفي عكس
الأيام الأول للانتفاضة، عندما كانت
الحكومة تحتكر تقريبا أعمال العنف، بدأ
الخوف ينتشر في الاتجاه الآخر، بينما يسعى
متمردون لقتل أنصار الحكومة ومخبرين، بحسب
ما يذكره أهل المدينة.
ومن بين القتلى الدكتور حسام عيد، رئيس
قسم جراحة الصدر في المستشفى الوطني داخل
دمشق، المنتمي للطائفة العلوية، وكان يعيش
في حي الزهراء، وهو من الأحياء التي تشكل
فيها طائفته العلوية أغلبية، وما زالت
الشوارع والمباني عليها صور الأسد. قُتل
عيد بطلق ناري أمام منزله بينما كان عائدا
من عمله، بحسب ما ذكره سكان محليون.
ووصفته صحيفة «العروبة»، وهي صحيفة موالية
للحكومة، بأنه «رمز للإخلاص»، وقالت إنه
كان يعالج ضحايا أعمال العنف «من دون
تمييز بين أي منهم»، ولكن في مناطق
المسلمين السنة، يصفه السكان بأنه مخبر
حكومي ساعد القوات الأمنية على اعتقال
الجرحى الذين كانوا يعالجون في مستشفاه.
وبحلول الليل، ظهرت مسحة شعور بالنصر داخل
المدينة، بينما كان بعض السكان يحتفون
بموته. وذكر شخص يبلغ من العمر 65 عاما،
قال إن اسمه رجب: «كان مسؤولا عن موت
الكثير من الشباب، لقد قُتل لأنه يستحق
ذلك». وبعد فجر اليوم التالي، علا صوت
إطلاق النيران بينما كان الأطفال في
طريقهم إلى المدرسة. وقال رجل كبير السن
يجمع القمامة وينظف الشوارع في المنطقة:
«لقد أطلقوا النار على أبو علي». وذكر
سكان بالمدينة أن أبو علي مخبر آخر. وقال
ناشط في أواخر الأربعينات، قال إن اسمه
أبو غالي: «كنا نحن الشباب منتبهين إليه
منذ وقت طويل، ولكن الوضع مختلف تماما،
فقد استمر في كتابة تقارير، ولذا اضطروا
لقتله، ولا أعتقد أنه مات فورا»، وقال أبو
غالي إنه ليس من الصعب الحصول على معلومات
عن المخبرين، وأضاف: «يمكنك القيام بأي
شيء باستخدام المال.. ما عليك إلا أن تقدم
رشوة لضابط شرطة، وأن تكون سخيا معه،
ويمكنك الحصول على ما تود».
وقد وقعت حوادث القتل خلال يومين دمويين
في حمص، وهي مدينة تقع على طول نهر
العاصي، وليست بعيدة عن قلعة الحصن
التاريخية، التي تعود لحقبة القرون
الوسطى، وقال السكان إنه بعد موت أبو علي
قتل ثلاثة مدرسين علويين في مدرسة في حي
بابا عمرو (صحف الحكومة لم تؤكد هذه
الوفيات). وعثر في فترة بعد الظهر على
محمد علي عقيل، وهو عميد مساعد في جامعة
البعث في حمص، ميتا في سيارته على الطريق
السريع. وقد قال الطلاب إنه أبدى تأييده
للانتفاضة وانتقد قيادة الرئيس الأسد في
محاضراته.
وقد كتب أحد الطلاب على موقع «فيس بوك»:
«صحيح أننا كنا نخاف أثناء محاضراتك،
ولكنك كنت أستاذا رائعا، فلترقد في سلام،
ونحن لن ننساك أبدا».
وتأخذ حمص وضعا غريبا بالقرب من الحدود
اللبنانية، حيث يقول السكان إن الأسلحة
تتدفق عبر الحدود السهلة الاختراق من
تركيا، فالكثير من السكان يشعرون في آن
واحد بالخوف والفخر، مستمدين القوة من
معارضتهم للديكتاتورية، بينما الكثير من
العلويين مرعوبون، فهم غالبا ما يكونون
ضحايا وضعهم في صور نمطية مبتذلة وربطهم
في الأحاديث الشعبية بالنظام الحاكم.
ولا يشاهد السكان في القرى العلوية سوى
قنوات التلفزيون الحكومية، ولكن القيام
بمثل هذا الفعل في الأحياء السنية يصل إلى
مرتبة الخيانة، حيث قناتا «الجزيرة»
و«العربية» هما القناتان المفضلتان. ويعطي
الشك الفرصة لانتشار أغرب الشائعات، ويقال
إن جزارة في حمص تدعى أم خالد تطلب من
العصابات المسلحة أن تجلب لها جثث
العلويين الذين يأسرونهم حتى تقطعهم وتبيع
لحموهم إلى زبائنها. وتعمل العلاقات
التاريخية الممتدة منذ قرون بين الطوائف
على بقاء المدينة متماسكة، حتى مع نذر
الحرب الأهلية التي تهدد بقطع هذه
العلاقات للأبد، ويشتعل الريف، كما يقول
السكان، بدرجة أشد من الكراهية الطائفية،
حيث تفصل نقاط تفتيش حكومية بين السنيين
والعلويين.
وقال ناشط (46 عاما): «عندما يقتل أحد
الجانبين علويا، يقتل الجانب الآخر سنيا».
وقد كانت الحصيلة الإجمالية للانتفاضة
قاتمة، فقد لقي أكثر من 2700 شخص حتفهم،
حسب إحصاء الأمم المتحدة، ولا تزال
الانتفاضة تستمد الكثير من قوتها من
الريف، بينما لا تزال المدينتان
الكبيرتان، حلب ودمشق، هادئتين نسبيا.
وعلى الرغم من ضعف موجة الاحتجاجات في
الآونة الأخيرة، فإن حمص لا تزال على
تحديها. وفي كثير من الأحيان يحمي رجال
مسلحون نطاق الاحتجاجات في أماكن مثل باب
السباع والخالدية وبابا عمرو، حيث تم
إغلاق بعض المحلات، وحيث تشوه النوافذ
المكسورة وثقوب الرصاص شكل المباني. وقد
قام بعضهم بتنفيذ عمليات الاغتيال ضد بعض
الواشين، أو «العوانية» كما يسمونهم،
بينما قام البعض الآخر بمراقبة نقاط
التفتيش الحكومية وعمل نقاط تفتيش مؤقتة
خاصة به.
وقال سائق في أواخر الخمسين من العمر
ويعيش في حي الخالدية: «إن لديهم قذائف
صاروخية وبنادق كلاشينكوف، وينبغي أن
يكونوا مسلحين ليتمكنوا من حمايتنا».
وقد أبقى إطلاق النار امرأة قالت إن اسمها
هو سليمة، تقطن في شارع الجورة في بابا
عمرو، وتكسب عيشها من بيع الكبة، وهو طبق
من اللحم المفروم مع البرغل، في منزلها
لمدة ثلاثة أيام، بينما كانت خطوط الهاتف
مقطوعة، وقالت: «لا نعرف متى سيبدأ إطلاق
النار مرة أخرى»، وقد كانت غاضبة ومنهكة،
وأعلنت عن حيادها في صراع يزيد من صعوبة
مفهوم الحياد.
وقالت بينما هي جالسة في منزلها الذي تسكن
فيه مع ابنتها: «الجيران يتهمونني بأنني
موالية للنظام، فلا أملك سوى الضحك، إذ ما
الذي أعطاه لي هذا النظام؟ فهو لم يعطني
شيئا على الإطلاق، والثوريون كذلك لم
يعطوني شيئا. وأنا آكل من عمل يدي، وإذا
لم أعمل فسأجوع.. وأنا على الأقل كنت أعمل
في السابق، أما الآن فأنا أجلس في المنزل،
ونادرا ما أغادره، وأكسب رزقي بالكاد».
* خدمة «نيويورك تايمز» (أرسل هذا التقرير
مراسل «نيويورك تايمز» في حمص.. وكتبه
أنتوني شديد من بيروت) |