لم تعد
العلاقة مع لبنان موضوعا دائم الحضور في
أحاديث السوريين السياسية، كما كان يحدث
في سنوات تأزم العلاقات، حين شعر السوريون
بأن بلدهم مهدد بالتحول إلى عراق ثان، مع
هبوب رياح عاتية قادمة من الباب اللبناني.
الموازين السياسية في المنطقة تغيرت،
ومياه العلاقات بين البلدين بدأت تعود إلى
مجاريها، فالمواطن السوري الذي عاش 4
سنوات من شد الأعصاب، تراه اليوم قد انصرف
إلى همومه الداخلية، وبين فينة وأخرى يلقي
نظرة على مشهد عودة الخصوم إلى طاولة
«الأخوة والتنسيق والتعاون» في مسلسل لم
تنته فصوله بعد وما زال يحتمل المفاجآت.
أحمد عيسى مهندس سوري بدمشق خاض حوارات
طاحنة قبل 3 سنوات مع زملائه حول موضوع
العلاقة مع لبنان، تراه الآن يتجاذب معهم
الحديث باسترخاء بعدما ثبتت صحة توقعاته
بأن الأزمة العاصفة التي ألمت بسورية
ولبنان واحدة من أزمات سبق وتعرضت لها
علاقة تاريخية لا يمكن فصم عراها، وستبقى
تتعرض للأزمات ما دام هناك كيان إسرائيلي
يربض على صدر المنطقة.
مساءات السوريين لم تعد كما كانت على موعد
مع اشتباك عائلي يومي كما كان الحال
الأعوام الماضية، عندما تحدث الاشتباكات
بعد متابعة نشرة أخبار، أو سماع ما يقوله
أحد زعماء لبنان حول سورية. كان الفتيان
والفتيات يفضلون مشاهدة قنوات المنوعات،
بينما يصر الآباء على مشاهدة القنوات
الإخبارية اللبنانية، ووصلها بجدل سياسي
حامي الوطيس مع الضيوف إن وجدوا.
جدل مدعوم بالألقاب والكنايات التي تنال
ممن يرون فيه خصما. التسميات والنعوت
الساخرة التي شاعت في تلك الفترة تكاد
تختفي اليوم من الأحاديث، ولم يعد ظهور
الخصوم على الشاشة مدعاة لتدفق سيل
الشتائم. بل للتعجب وهز الرأس وترديد
عبارات «سبحان الدائم»، «وحده يغير ولا
يتغير»، «لا يدوم إلا وجهه».. إلخ، وفي
المقابل خفت بريق أصدقاء سورية في لبنان
ولم تعد تصريحاتهم المناصرة للسوريين،
تحظى بالاهتمام كما سبق.
رامي حسن (19 عاما)، مسح من ذاكرة جواله
مقاطع غناء وزجل هجاء لخصوم سورية في
لبنان. وآخرون استبشروا خيرا بنزع فتيل
الأزمة.. إلا أنهم يخافون من أزمات
المستقبل. المهندس، أحمد عيسى، أحد الذين
خلطوا الحذر بالتفاؤل حيال تحسن العلاقات
السورية - اللبنانية. يقول: العودة إلى خط
المصالحة.. يرد الاعتبار للمواطن السوري،
لكن هذا لا يعني أن «نطمئن تماما.. فثمة
ملفات كثيرة ملغومة لا تزال معلقة، وهناك
أيد دولية تعبث بها، فالخوف ليس من لبنان
بل من أعداء سورية ولبنان وعملائهم».
ويتابع «كما سبق وخلقت كافة الظروف
الملائمة لإشعال أزمة.. تخلق الآن الظروف
لتبريدها.. فما الذي يمنع إشعالها
ثانية؟».
أما كنان سائق، وهو طالب سنة رابعة في
كلية العلوم الدبلوماسية في جامعة القلمون
الخاصة، يقول لـ«الشرق الأوسط»، إن الوضع
الإقليمي الآن غير ما كان عليه قبل 4
سنوات.. «الزعماء العرب وفي مقدمتهم خادم
الحرمين الشريفين حريصون على نزع فتيل أي
أزمة محتملة وكل ما قد يفجر الوضع في
لبنان». دون أن يستبعد نشوب معارك سياسية
ويقول «الجميع متنبه وبالأخص سورية إلى
الألغام الموجودة في الملفات العالقة
بالأخص ملف سلاح المقاومة وترسيم الحدود»
ما يعني أن «الفترة القادمة ستشهد عملية
سياسية قد تكون أخفض صوتا لكن ليست أقل
تعقيدا».
الموقف اللبناني الذي عبر عنه رئيس
الوزراء اللبناني سعد الحريري في اجتماع
هيئة المتابعة والتنسيق السورية -
اللبنانية الذي انعقد مؤخرا في دمشق بأن
«مصلحة سورية ولبنان يجب أن تعلو فوق كل
شيء» لافتا إلى «عمق العلاقات الأخوية
والتاريخية بين البلدين والشعبين»، موقف
كفيل بتهدئة مقاربة الملفات العالقة.
لبنان بالنسبة للسوري جزء من جغرافيته
وتاريخه وحياته اليومية، فمثلما ينال
الموضوع العراقي الاهتمام الأكبر من سكان
المناطق الشرقية في سورية، بسبب العامل
الديموغرافي فإن موضوع لبنان يشغل بال
سكان المناطق الجنوبية والغربية، ويزداد
الاهتمام كلما اقتربنا من الحدود فهناك
مئات القرى يتشارك فيها العيش مواطنون
سوريون ولبنانيون، يتقاسمون الهم المعيشي
والسياسي، ويرتبطون بصلات دم، لا تعترف
بوجود حدود تحول دون تواصلهم اليومي،
فأكثر من مائة قرية داخل الأراضي السورية
نصف سكانها يحملون بطاقات هوية لبنانية،
ويجدون في سكن تلك المناطق مصدر رزق، إذ
يتعيشون على التهريب بين البلدين، أو
يستفيدون من فارق العملة فيعملون في لبنان
ويشترون حاجاتهم من السوق السورية.
أم علي لبنانية تعيش في قرية «حاويك»
الحدودية في محافظة حمص، أبناؤها الذكور
الخمسة يعملون في بيروت، وبناتها الثلاث
متزوجات في بعلبك، فهي لا تعترف بالحدود.
موقف أم علي موقف كل مواطن سوري أو لبناني
يشعر بأن السياسة بدأت تضر بمصالحه وتسد
سبل عيشه، وحيال ذلك لا يمكن أن يكون
محايدا. وبالتالي فإن غالبية السوريين لا
يمكنهم قراءة ما يجري في لبنان بعيدا عن
أمن واستقرار سورية، ولطالما نظر الكثيرون
إلى كون لبنان «خاصرة رخوة»، أو ساحة يمكن
أن تستخدم ضد بلدهم ضمن مخاوف تكرست
تاريخيا عبر أكثر من حدث سياسي في تاريخ
البلدين، لكنهم اليوم يرون أن لبنان هو
الآن في حضن سورية.
ويرجع إعلامي سوري رفض ذكر اسمه اهتمام
المواطن السوري بالشأن اللبناني إلى عدة
عوامل تاريخية وجغرافية وديموغرافية يقول:
«أعداد كبيرة من الشعب في البلدين يرتبطون
بعلاقات مصاهرة». وأضاف «لبنان يتمتع
بديمقراطية نسبية وفريدة في العالم العربي
شكلت ملجأ للهاربين والمنفيين أثناء
الاضطرابات السياسية.. هذه الأسباب وغيرها
تجعل المواطن العادي معنيا بالشأن
اللبناني». وأشار إلى عوامل أخرى كـ«الإقبال
السوري على الصحافة اللبنانية إبان فترة
تأميم الصحف في سورية، فصارت الصحف
اللبنانية المستقلة مصدر المعلومة، وتابع
السوريون أخبار لبنان أكثر من أخبار
بلدهم». وزاد «مع ظهور القنوات الفضائيات
المتعددة، ازداد الاهتمام السوري
بالفضائيات اللبنانية التي ملأت الفراغ
الذي أحدثه غياب الإعلام المستقل في سورية
لعقود طويلة».
ويؤكد مراقبون سوريون أن القنوات
التلفزيونية اللبنانية التي يتابعها
السوريون بشغف لعبت دورا أساسيا في جعل
الموضوع اللبناني في مقدمة المواضيع
السياسية التي تهمهم. فراس حبوش (45 عاما)
يتابع نشرات الأخبار في فضائية «الجديد»
اللبنانية، يقول «إنها تفاصيل تصريحات
الفرقاء في لبنان، كما أنها تفيدنا بأخبار
سورية أكثر من التلفزيون المحلي». ويضيف
«كل أخبار الزيارات واللقاءات في وسائل
إعلامنا المحلية يعبر عنها بجملة واحدة لا
تتغير؛ جرى تناول العلاقات الثنائية
وتطورات الوضع في المنطقة وتم بحث القضايا
ذات الاهتمام المشترك.. ويترك ما وراء
السطور وهو كثير لتقديرات المشاهد وكل
بحسب درجة ذكائه».
ويخلص المراقبون السوريون إلى أن تقديرات
الشارع السوري تشير إلى وجود مخاوف من
احتمال حصول أزمة في لبنان، على خلفية ما
يقال عن القرار الظني الذي سيصدر عن
المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ومع أن
سورية خرجت من دائرة التهديد، فإن أي
اضطراب أو أزمة في لبنان لا بد أن تنعكس
على سورية، ليس لأنه خاصرة رخوة، كما كان
يقال في الماضي، بل لأنهما كانا وسيظلان
محكومين بجغرافية تضع لبنان في حضن سورية. |