أخبار الوطن الرئيسية

05/04/2011

 

دولة بلطجية تضم حثالة المجتمع

ميشيل كيلو

 

ابتدع كتاب ومفكرون غربيون مصطلح 'الدولة المارقة'، لاعتقادهم أنه يعبر عن واقع يحمل معطيات جديدة، تتظاهر على صعيد تنظيم بعض الدول وطابعها في زمن الاستبداد والإرهاب وانفلات الرأسمالية على العالم بما حملته إليه من احتلال وغزو وعنف وتطور مدمر في مناطق كثيرة . إنه مصطلح يضاف إلى المعروف من أنواع الدولة، كان لا بد من بلورته كي يعبر عن الخصائص التي تجعل دولة بعينها مختلفة عن أنماط الدول المعروفة، تكمن أهم سماتها في عدم التقيد بالقانون والأعراف الدولية والداخلية: في علاقاتها مع الآخرين وشعبها.
بالتلازم مع ذلك، تطور مفهوم آخر لدولة من نمط مختلف هي 'الدولة الفاشلة'، التي تعجز عن إدارة شعبها بطريقة تتيح له تقدما مستمرا، وتنمية دائمة، وحكما رشيدا، ووحدة داخلية، تقوم على أسس قانونية أو شرعية، أو ترفض القيام بمهام الدولة هذه. واليوم، يبدو أنه صار من الحتمي صياغة مفهوم جديد لنمط جديد من الدولة صنعته السياسات والنظم العربية، يجمع بين نمطي الدولة المارقة والفاشلة، هو 'الدولة البلطجية'، التي تنظم في مستوى السلطة ومؤسساتها حثالة المجتمع السفلي من قطاع طرق ومجرمين وتجار مخدرات وقوادين ومبيضي أموال ناشطين ومحتملين، وكذلك من نجحت في تحويلهم إلى مجرمين من هذه الطرز، وأدخلتهم إلى أجهزتها ومنظماتها الأيديولوجية والسياسية، المتخصصة في قهر المجتمع والسيطرة عليه، أو وضعتهم في حالة كمون لاستخدامهم عند الحاجة، ضد الشعب طبعا، الذي تقوم مهامها كأجهزة على وضع نفسها في مواجهته، رغم أنها تحمل ألقابا وتسميات رسمية، فهي أجهزة شرطة وأمن في تونس ومصر، وكتائب أمنية في ليبيا، وقوات مكافحة إرهاب وشغب في اليمن، وقوات حفظ نظام في الأردن والبحرين ... الخ .
وقد أظهرت الأحداث التي عاشها الشعب المتمرد، والمسالم، أن هذه الأجهزة الرسمية كرست نفسها ليس لمهمتها المعلنة: حماية أمن وسلام المواطن، أسوة بما تفعله عادة الأجهزة في دولة يحكمها قانون يحدد صلاحياتها وينظم علاقاتها الداخلية وصلاتها مع الشعب، ودستور يلتزم قادتها باحترامه وتطبيقه قبل غيرهم، وأنها مدربة على هدف وحيد: ذبح الشعب بدم بارد، وإخضاعه بمختلف صنوف الأسلحة ووسائل التنكيل والقتل لرئيسها، الذي كان إعلامه يسميه 'السيد الرئيس' وتبين أنه بلطجي قاتل وزعيم مافيا، وأن نموذجه الأكمل يتجسد في صاحب ليبيا، الذي أقام دولة بلطجية يقود أجهزتها المسلحة أبناؤه وأقرباؤه ومن في صفهم، رفضت وترفض أي مطلب للشعب، مهما كان بسيطا وشرعيا، ولا تطلق الغاز لمسيل للدموع ومدافع الماء ضد المتظاهرين، مثلما حدث في تونس مصر، بل تواجههم بالرصاص الحي ما أن ينزل أول واحد منهم إلى الشارع.
هذا النمط من الدولة، الذي ظهر بأوضح صوره خلال الفترة القريبة الماضية في بلدان عربية شهدت حركات احتجاج شعبي واسعة ضد حكوماتها ونظمها، يجمع بين قيادة تعتمد أيديولوجية تسوغ تعريض الشعب لعمليات قتل مفتوحة في أي وقت، تتبنى فلسفة تعتبر الشعب 'جرذانا وكلابا ضالة' (معمر القذافي) تستحق القتل والتجييف (الرمي في العراء كي تلتهمها الكلاب والذئاب)، يحرر قتلها 'شعب الطاهرين' الذين يشبهون قائدهم، من العناصر النجسة /القذرة، أي الخائنة، التي ما أن تطلب حريتها حتى تفقد صفتها الإنسانية وحقها في الحياة، ويصير التخلص منها واجبا وطنيا يجب على كل مواطن القيام بما يمليه عليه من أفعال.
على أن للدولة البلطجية نوعين: واحد يستخدم عناصر أجهزته خارج أي قانون، لتنفيذ ما يسمونه عمليات قذرة من النموذج التونسي / المصري، وثان يمسك بمفاصله ويقرر أفعاله بلطجية يكونون جهازه السياسي في كافة مستوياته، ويخترقون تنظيماته المتباينة من النموذج الشمولي المعمم، مثلما هو حاله في ليبيا على سبيل المثال.
- أما النوع الأول، فهو يدير في الأوقات العادية لعبته ضد المجتمع ضمن إطار عادي وبوسائل عادية، مجافية للقانون طبعا، فإن اختلت التوازنات بينه وبين مواطنيه وأحس بالخطر على نفسه، واجهتهم أجهزته كما تواجه عصابات منظمة خصومها: بالعنف الأقصى الخارج على أي عرف أو قانون أو شرعية، وتخلت عن الحياد الظاهري / الشكلي، الذي تبديه السلطة في حال نشوب نزاع بين أطراف متصارعة، وانقلبت إلى طرف يتعامل مع خصمه، وهو في هذه الحالة الشعب، بوسائل مافياوية صرف، تعطل الدولة ريثما تبعد الخطر عن السلطة، وتنجح في إعادة إنتاجها من جديد ضمن صور وأشكال قانونية ظاهرية وخادعة، تحجب وجود البلطجة كحقيقة جوهرية تشكل صلب بنيتها، وتظهرها مجددا بمظهر سلطة محايدة تطبق القانون وتحمي السلام العام.
- أما النوع الثاني، فهو يتحكم بمجتمعه بصورة دائمة من خارج أي إطار قانوني أو علاقة شرعية. هنا، لا يتعلق الأمر بدولة لديها بلطجية، بل ببلطجية عندهم دولة يحتلون بصفة ثابتة جميع أجهزتها. لذلك تتجاوز معركتها ضد الشعب، ومعركة الشعب ضدها، السياسة، وتصير معركة حياة وموت، فإما هو أو هي وليس هناك من سبيل إلى حل وسط. ولعل القذافي كان خير من عبر عن هذا النمط من الدولة، عندما وصف معركته ضد الثائرين عليه، وقال 'إنها ستمتد من الصحراء إلى الصحراء، وستأخذ صورة زحف سيضم الملايين، لـ'تطهير' ليبيا شارع شارع، بيت بيت، دار دار، زنقة زنقة، فرد فرد'. يقول هذا الكلام بلغة فاقعة: إن نتيجة المعركة لن تكون إعادة إنتاج الدولة، بل إبادة الشعب، كي لا يبقى شعب في الدولة البلطجية وتصير دولة طاهرة، ترى في القانون والدستور وحقوق الإنسان والمواطن عناصر تقوضها، وتكتفي من القيم بذلك النمط من الحرية، التي قال القذافي مرارا تكرارا 'إنه هو الذي أعطاها لشعبه'، فمن حقه إذن استعادتها من الذين لا يستحقونها، ويفقدون بفقدها حقهم في الحياة.
ثمة في كل دولة أجهزة تحتكر العنف، غير أنها تخضع، بهذا القدر أو ذاك ولهذه الفترة أو تلك، لقانون أو لجوانب من قانون، كما يتم تقييدها من خلال ضبط المجال العام بالسياسة وتوازناتها، وعبر علاقات شرعية وتوافقية تقوم عادة، إلى حد الحد أو ذاك، بين الدولة ومواطنيها. هنا، في هذه الدولة، يظهر العنف حين تعجز السياسة ومؤسساتها عن إدارة المجال العام وضبط مكوناته وعناصره، ويكون ظهوره مؤقتا ومنصبا على مسائل بعينها في أغلب الأحيان، كما تقول شواهد كثيرة. أما في نمط الدولة البلطجية، فهو ظاهرة دائمة تقطعها فترات قصيرة من تطبيق انتقائي للقانون والإقرار بشرعية ما تحتاج إليه من بنوده وفقراته، بينما تكون مهمة السياسة تطبيق العنف كوسيلة رئيسية لضبط الحياة العامة وإضفاء طابع قانوني وشرعي عليه، وتطبيع علاقات المجتمع معه وتعميمه على كل مجال وقطاع، بما في ذلك الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ناهيك طبعا عن السياسي.
ومن يراقب حجم العنف الذي دخل إلى كيان وأبنية وممارسات الدول العربية، يجد أنها مصابة جميعها بلوثة البلطجة، وأن عناصرها ومكوناتها تخترقها وتتوفر فيها جميعها بدرجات مختلفة، تبقى في جميع الأحوال بارزة الحضور فيها.
باشتداد مقاومة المجتمعات العربية، وبداية تمردها على الأمر القائم، افتضح السر وبان أن دول العرب القائمة ليست في معظمها غير أغلفة خارجية رسمية لسلطة بلطجية مافياوية، بدأ الشعب يسقطها في كل مكان: بدءا بتونس، مرورا بمصر، وصولا إلى اليمن وليبيا وبقية البلدان، بينما هو يشق طريقه نحو زمن جديد تبين أن هذا النمط من الدولة كان أعظم عقبة في طريقه!

المصدر:صحيفة القدس العربي  -  أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر تسبب ملاحقه قانونيه

الرئيسية

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن موقف المرصد السوري