ألقت الأحداث الجارية بظلالها على
الحركة النقابية، وأصبح هناك كلام يدور
بين أعضائها وكوادرها حول الأسباب العميقة
التي دفعت إلى اندلاع الاحتجاجات وسقوط
الشهداء، وهل هي مؤامرة خارجية أم داخلية؟
أم الاثنتان معاً؟ أم أن هناك أسباباً
أخرى إضافية لعبت دور التربة الخصبة في
إنبات التذمر والاستياء؟ واستفادت منها
إلى حد بعيد القوى المعادية الداخلية
والخارجية، ضمن مخطط التغيير الذي تسعى له،
والبعيدة عنه الجماهير الشعبية عامةً،
والجماهير التي احتجّت خاصة، والتي لها
مطالب وحقوق حُرمت منها لعشرات السنين،
والتي منها السياسات الليبرالية
الاقتصادية ـ والاجتماعية التي انتهجتها
الحكومة، واتسعت فيها مؤشرات الفقر
والبطالة والفساد، هذا الثالوث الذي تعمقت
جذوره في الحياة العامة للشعب السوري، مما
أدى إلى توسع حالة التذمر والاستياء
والغضب مما يجري ويمارَس على الأرض، وخاصة
تمكين قوى السوق ورأس المال من الاستيلاء
والتحكم بالمفاصل الرئيسية للاقتصاد
الوطني، على حساب القطاع العام، والسير
باتجاه تحقيق وتأمين مصالح تلك القوى على
حساب مصالح وحقوق الملايين من الفقراء
الذين ازدادوا فقراً واتسعت شرائحهم.
وضمن هذا الواقع وتطوره، لم تكن الحركة
النقابية وكوادرها بعيدة عن رؤية المخاطر
الحقيقية التي تحيط بالبلاد والعباد،
والتي أنتجتها السياسات الحكومية، وقد
أشاروا لها في المؤتمرات والمذكرات
والتقارير السنوية، وبالرغم من هذا فإن
الحركة النقابية لم تستطع أن تقدم حلولاً
وإجراءات عملية لمواجهة تلك المخاطر، بل
كانت في أحيان كثيرة تصفق لما تقوم به
الحكومة، وتعتبر ذلك إنجازاً وانتصاراً
لحقوق ومطالب الطبقة العاملة السورية،
بينما في الواقع يجري الهجوم على مكاسبها
وحقوقها.
إن هذا السلوك المشترك بين الحكومة (السابقة)،
والحركة النقابية، قد جعلها أمام خيارين
لا ثالث لهما، مهما جرى الحديث عن أن
الحركة تعمل ما عليها تجاه تحصيل حقوق
العمال والدفاع عنها:
الخيار الأول: أن تنحاز إلى الطبقة
العاملة السورية، وهذا يتطلب حزمة من
المبادرات، وعلى رأسها تأمين استقلالية
قرار الحركة النقابية باعتبارها منظمة
نقابية مستقلة للطبقة العاملة تعبر عن
مصالحها الوطنية والسياسية والاجتماعية،
بغض النظر عن الانتماءات الحزبية لأعضائها،
وهذا سيؤسس لتأمين الحريات النقابية
والديمقراطية للطبقة العاملة، وسيمكنها من
تأمين حقوقها والدفاع عنها، وذلك بتبني حق
الإضراب والتظاهر السلمي.
إن الواقع يتطلب الآن، دون تأخير، الدعوة
إلى عقد مؤتمر عام للحركة النقابية تجري
فيه مراجعة الآليات والخطاب والممارسة
النقابية، وفي مقدمة تلك المراجعة، لابد
من إعادة النظر في قانون التنظيم النقابي،
لأن هذا القانون أصبح متخلفاً ولا يلبي،
ولا يعطي القدرة للحركة النقابية على
القيام بمهامها المطلوبة، وهذه الخطوات
ستقطع الطريق تماماً على الداعين
والعاملين على تهميش دور الحركة النقابية
في القضايا الوطنية والطبقية، والمفترض أن
يكون لها دور أساسي وفاعل في هذا الحراك
الجاري الآن.
والخيار الثاني: المراوحة في المكان
والإبقاء على الأوضاع كما هي، دون التقدم
إلى الأمام باتجاه القطع الكامل مع
السياسات الليبرالية ورموزها، الذين كانوا
يعملون بكل قواهم على إضعاف الحركة
النقابية وإضعاف علاقتها بالطبقة العاملة
السورية، بجميع الوسائل المتاحة لها،
وأهمها إظهار الحركة النقابية على أنها
غير قادرة على الدفاع عن حقوق العمال
ومكاسبهم، وهذا إن استمر سيضعف وحدة
الحركة النقابية، وسيدفع للبحث عن أماكن
أخرى تؤمن الدفاع عن حقوق العمال، وهذا ما
لا نريده، ولا تريده كل القوى الوطنية
الشريفة في هذا الوطن.. |